نُتابع فى هذا المقال قراءتنا فى الكتاب المهم: «تهويد التاريخ.. إعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم»، للباحث والأديب «رضا الطويل»، وهو يتفحَّص بتركيز مراحل وظروف تدفُّق الهجرات اليهودية إلى مصر، وإن بشكل محدود، منذ بدايات القرن السادس ق.م. وحتى عهد «الإسكندر الأكبر»، وحين تولى حُكم البلاد «بطليموس الأول» اتّجه، والجيش المصرى، بفتوحاته المتعددة نحو فلسطين، فى أعوام: ٣٢٠، ٣١٢، و٣٠٢، ٣٠١ ق.م. إلى أن تم وضعها بالكامل تحت الحكم المصرى عام ١٩٨ ق. م، حيث- كما يذكر الكاتب: «تدفّقت إلى مصر الهجرات اليهودية بأعداد هائلة، تمثَّلت أول ما تمثَّلت فى حشود الأسرى اليهود، الذين بلغ عددهم نحو المائة ألف».
كما تدفّق سيل آخر من الهِجرات السورية إلى مصر من الفلاحين البسطاء، وأغلبهم من اليهود، غير أن «الهجرة اليهودية إلى مصر»، كما يلخص المؤلف، لم تتوقف عند هذا الحد، بل استمرت بنشاط مُجدد، مُمَثَّلًا فى أفواج المنفيين والمطاردين، وأنصار الكاهن «أويناس الرابع» الذى صاحب هِجرته إلى مصر أفواج لا تحصى من اليهود!
ويقدِّر المؤرخ «أريستاس» عدد اليهود الذين تدفَّقوا على مصر، فى القرن الأول الميلادى، بنحو المليون يهودى، أى ما يوازى نحو سبع عدد السكان، راحوا ينتشرون فى كل أنحاء البلاد، «على امتدادها من البحر المتوسط شمالًا إلى إلفنتين جنوبًا»، الأمر الذى صنع من التجمُّع اليهودى «قوة اجتماعية ذات تأثير فى المجالات السياسية والثقافية، تحتل موقعها المؤثر فى الأحداث إلى جانب القوتين العظميين: القوى الوطنية المصرية، والقوى الإغريقية»، وهو- مرة أخرى- ما يجعلنا نُثَمِّن، مُجَدَّدًا، جهد «مانيتون» التأريخى الكبير، ودوره المرموق فى حماية الهوية المصرية، والدفاع عن تاريخ وطنه وشعبه!
وفى عهد «بطليموس السادس»، الذى أبرز تعاطفًا قويًا تجاه «الساميين»، صعد موقع اليهود كـ«قوة سياسية مؤثرة» و«تدفّق نهر جديد من المهاجرين إلى مصر»، واستخدمهم الحكّام فى الاقتتال من أجل الاستئثار بالسلطة، مثلما حدث فى صراع الملك «فيلوميتور» وأخيه، إذ لجأ الملك إلى الاستعانة باليهود مقابل منحهم امتيازات خطيرة، مثل السماح لهم بتكوين «وحدة حربية يهودية» «وتحت قيادة يهودية»، لأول مرة فى تاريخهم بمصر!
وإضافة إلى ذلك، كما يشرح المؤلف، سمح لهم الملك «فيلوميتور» بالعمل فى الإدارة المالية، والضرائب، والوظائف الرسمية، والدخول إلى البلاط.
كما نجح اليهود فى التحالف مع «كليوباترا» أرملة «فيلوميتور»، وفى عهد «إيرجيتيس الثانى»، الذى تزوج منها بعد رحيل «فيلوميتور»، تم منح اليهود حقوقًا مدنية عديدة فى الإسكندرية، عاصمة البلاد. ويُلخِّص الكاتب موقف اليهود الذى عبَّر عن نفسه خلال هذه الحقبة «البطلمية»، التى استمرت نحو ثلاثة قرون تقريبًا، بـ«الميل الشديد للإغريق، والولاء للملك ومناصرته، فى الوقت الذى التزم فيه بعدائه الشرس للمصريين»، وهو نهج لا يدعو بأى حالٍ للعجب، فدائمًا ما كان انتماؤهم الأول والأخير لمصلحتهم، لا للأوطان التى استضافتهم، وأغدقت عليهم!
وقد شهدت مصر، مع أفول نجم الأسرة السادسة والعشرين، حوالى ٥٢٥ ق.م، احتلال الفرس بقيادة «قمبيز» لها فى عهد «بسماتيك الثالث» آخر ملوك هذه الأسرة، وتلته الحقبة الإغريقية، فالرومانية، اللتان شهدتا تراجعًا تدريجيًا فى القدرات المصرية مواكِبًا لانحدار الهوية الوطنية، حيث «تقوَّضت دعائم القومية المصرية بتغلغل النفوذ الأجنبى فى البلاد، وتدهورت أحوال مصر الفرعونية إلى أن أصبحت»، يذكر المؤلف، «جسمًا بلا روح ومعبدًا بلا إله»!
وفى حدث هو الأبرز من بين أحداث العهد الرومانى، مَثَّلَ دخول المسيحية إلى مصر، قرابة منتصف القرن الميلادى الأول، بواسطة «القديس مرقص»، فى عهد الإمبراطور «نيرون»، نقطة تحول فاصلة فى تاريخ مصر القديمة.
وقد قاومت الإمبراطورية باستماتة وعنف انتشار هذه الدعوة- الضد، التى بشَّرت بمناهضة الوثنية، وتمرَّدت على تقليد تقديس الأباطرة، ورفضت «عماد النظام الاقتصادى للدولة الرومانية»: نظام الرق، فعم الاضطهاد لمعتنقيها حتى بلغ ذروته فى عهد «دقلديانوس»، «٢٨٤- ٣٠٥ ميلادية».
لكن تصاعد وتيرة العنف لم يزد أنصار الدعوة الجديدة إلّا إصرارًا على التمسُّك بأهدافها، وتزايدت وتيرة الهروب الكبير لأنصارها من الشمال المصرى باتجاه الجنوب، وأتاح هذا الوضع الانتشار الواسع للدعوة، حتى أصبح أتباع العقيدة المسيحية، فى عهد الإمبراطور «قسطنطين»، «٣٠٦- ٣٣٨ ميلادية»، «يُمثلون الأغلبية الأكثر عددًا من السكّان فى الدولة الرومانية بأسرها»، الأمر الذى أجبرَه على إعلان اعتناقه الدين الجديد، مُعترفًا به «دينًا من أديان الدولة»!
وتطوّر الحال إلى أن أصدر الإمبراطور «ثيودوسوس»، فى عام ٣٨٠ م، مرسومًا يُحرِّمُ عبادة الأوثان، ويفرض اعتناق المسيحية، فتم على أثره إغلاق المعابد المصرية القديمة، المحدودة، التى كانت لا تزال قائمة فى البلاد، وانتشرت الدعوة المسيحية على أطلال الديانة المصرية القديمة، وتبع ذلك حالة من «الاضمحلال التدريجى للثقافة المصرية»، وتدهور وزوال اللغة الهيروغليفية المُقدّسة، وتبدُّد جانب مُهم من الأرشيف التاريخى الحافظ لمسيرة الحضارة المصرية التليدة، حيث دفعت الحماسة للدين الجديد أنصاره المتحمسين إلى تدمير المعابد ومكتباتها الثمينة وما تتضمنه من وثائق ومخطوطات، كما يشرح الكاتب.
ويُنهى الكاتب هذا القسم من كتابه القيِّم: «تهويد التاريخ.. إعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم»، بجملته الصارمة المؤثرة: «وما أن أتى النصف الأول من القرن الخامس الميلادى حتى انتهى كل أثر من آثار المعرفة والعلم والثقافة المصرية القديمة دون أن يجد مَن يُدافع عنه.. واختفت إنجازات مصر القديمة من الوجود، ولم يصلنا من (مانيتون) وتاريخه إلّا المقتطفات والشذرات التى نقلها المؤرخون القدامى للأسف الشديد»!
وأغلقت صفحات الكتاب، وأصداء أصوات أجدادنا المصريين القدامى يتردَّد صداها فى الأعماق، محمولًا على حروف كلمات الحكيم «أمنؤوبى»، ومُحتلًا مكانته الباقية فى الوجدان:
«اقتد بآبائك الذين ذهبوا من قبلك.
انظر: إن كلامهم الحكيم باقٍ فى الكتب،
فافتح.. واقرأ، واقتدِ»!