الخميس 05/ديسمبر/2024 - 08:10 م 12/5/2024 8:10:41 PM
(أتمنى لو أستيقظ يومًا وأرى غزة وقد ابتلعها البحر)، مقولة ترددت كثيًرا على لسان قادة الاحتلال الإسرائيلي المتلاحقين.. منهم من قالها حرفيًا، كما جاءت نصًا على لسان رئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، قبل اغتياله على يد متطرف إسرائيلي، ومنهم من قالها محتوىً ومضمونًا، وكانت أمانيهم جميعا، مثل اسحاق شامير وشمعون بيريز وإرئيل شارون وشاؤول موفاز وإيهود باراك وغيرهم.. وهي العبارة التي عبَّرت عن حجم المأزق الذي عاشه هؤلاء، منذ أن سلبوا أرض فلسطين.. ولأن البحر لم ولن يبتلع غزة، وأحلام رابين وبيريز وشارون وشامير لم تتحقق وتبددت كدُخان عابر، فإن غزة هي التي ابتلعت جيش الاحتلال، فكان اندحاره عام 2005، هروبًا من جحيم الضربات المتتالية لرجال المقاومة، والتي أثخنت جراحه وأنهكته على مدار سنوات طويلة من المقاومة، دفعته للانسحاب منها، وتفكيك مستوطناته فيها، قبل أن يعود إليها غازيًا، ردًا على (طوفان الأقصى) في السابع من أكتوبر قبل الماضي.
على مدار عقود متواصلة؛ مثّلت غزة نموذجًا لروح المقاومة العالية.. وبشكل مُتكرر، اعترف قادة الاحتلال بأن المقاومة الشرسة في غزة أقضًّت مضاجعهم وأصبحوا لا يشعرون معها بالراحة مطلقًا، كقول قائد جيش الاحتلال آنذاك، شاؤول موفاز، إن العمليات المسلحة التي عرفها الجيش الإٍسرائيلي في قطاع غزة، لا تشبه أي حرب خاضها الكيان الصهيوني قبل ذلك، فيما قال إيهود باراك، رئيس الأركان، ولاحقًا رئيس وزراء الاحتلال، (إن الفلسطينيين أضحوا مثل الوسادة، كلما وجهت لهم لكمة، كلّما ارتدت قبضة يدك إلى وجهك بقوة).
مرت سنة وشهرين من الحرب العدوانية على الشعب الفلسطيني في غزة، ومازال الوضع صعبًا للغاية، ارتقى خلاله خمسة وأربعين ألف شهيد، وقالت عنه صحيفة (الجارديان) البريطانية، أنه منذ ذهاب رئيس الوزراء الإسرائلي، بنيامين نتنياهو، للكونجرس، أصبح يملك ضوءًا أخضر ليفعل ما يشاء، فبدأ يمارس محو العائلات والمدن والمنازل.. ومنذ إلقاء نتنياهو كلمته في الكونجرس وصفقوا له، يتمادى في انتهاك القانون الدولي الإنساني، حتى قرار المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لحماية القواعد الهشة للقانون الدولي، لم تصمد أمام جرائم حكومة نتنياهو، فاستمر الضرب والقصف والتدمير في كل مكان.. تتحدث (الجارديان)، في مقال مهم، أن الفرق بين الحضارة والهمجية هو قدسية الحياة الإنسانية، فما يمارسه نتنياهو وحكومة إسرائيل همجية، فلا احترام لقدسية الإنسان، ولا قيمة للدم ولا قيمة للحياة، ولأبسط الأسباب يتم القتل.. وبحسب الجارديان، الحرب قسمت عالمنا إلى عالمين، أصبح حجم الإحباط الفكري في العالم كبير، الحرب لها أثارها الفكرية والثقافية على العالم، لأن العالم أدرك أن قرارات الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والجنائية الدولية ومجلس الأمن والجمعية العامة والقوى الدولية والشعوب، لم تؤدي لإيقاف هذه الهمجية في القرن الحادي والعشرين، فأصبحنا إزاء عالمين أحدهما يعيش في حرية، وعالم ـ يمثله الشعب الفلسطيني في غزة ـ ليس لديهم أبسط قواعد الحياة.
لم يبق أمام أهل غزة، إلا البحث عن ثلاثة أشياء.. أن يتفادوا القصف، لأن الضرب في كل مكان مستمر، والبحث عن الطعام، فلا عذاء ولا ماء أو أدوية، وثالثهم هو البحث عن ضحاياه تحت الأنقاض.. وعلى الرغم من تلك الثلاثية الصعبة اللا إنسانية، هناك صمود فلسطيني أسطوري في مواجهة الكارثة، وبطولة لا سابقة لها في مواجهة حرب لا مثيل لها، خصوصًا في شمال قطاع غزة، حيث العملية العسكرية الإسرائيلية المستمرة هناك، التي أدت إلى نزوح مائة وثلاثين ألف شخص خلال الأسابيع السبعة الماضية، ولم يتبق من سكان الشمال إلا نحو ستين ألفًا فقط، يقول مسئولو الإغاثة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة، إن الأعمال العدائية المستمرة لا تزال تُعرضهم لخطر كبير، وهم يحاولون النجاة من الحصار الإسرائيلي.. لقد أجبر النقص الحاد في غاز الطهي العائلات على الاعتماد على حرق النفايات للحصول على الوقود، مما يزيد من خطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي، في وقت وصلت فيه الخدمات الصحية إلى الحد الأدنى.. وذكر برنامج الغذاء العالمي، أنه مع تفاقم أزمة الجوع، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة تتجاوز الألف في المائة، مقارنة بمستويات ما قبل القتال.. وانزلق القطاع إلى حالة من الفوضى، مع انتشار الجوع وتفشي أعمال النهب وزيادة حوادث الاغتصاب في أماكن اللجوء، وسط انهيار للنظام العام، حيث يعيش آلاف النازحين في مبانٍ مدمرة جزئيًا أو مخيمات مؤقتة، في ظروف غير إنسانية، مع نقص حاد في الغذاء وظروف صحية مروِّعة، وأحوال طقس شتوي لا ترحم.. لقد رأى مسئولو الإغاثة، لأول مرة، عشرات النساء والأطفال في القطاع المُحاصر، وهم يبحثون في مكبات نفايات ضخمة عما يسد جوعهم، (النساء اللواتي التقين بهن إما فقدن أفرادًا من أسرهن، أو انفصلن عن أسرهن، أو دُفِن أقاربهن تحت الأنقاض، أو أُصبن أو مرِضن).. مستوى الدمار في غزة (يزداد سوءًا.. وكان النداء المشترك من قِبل كل من التقين بهم، هو (أن يتوقف هذا.. وأن يتم وضع حد لهذا.. كفى.. من فضلكم، كفى).. العراقيل المتكررة،أو رفض القوافل الإنسانية من قِبل السلطات الإسرائيلية، يجعل هناك حاجة ملحة إلى وصول مساعدات إنسانية ضخمة، وهذا لا يحدث!!.
تتعرض قوات الدفاع المدني للقتل، إذا ما حاولت إنتشال من دفنته الضربات الجوية أو طلقات المدفعية تحت ركام المباني المدمرة، حتى قال أحدهم، أننا نسمع أصوات استغاثة من تحت الأنقاض، ولا نستطيع أن نفعل لها شيئًا، حتى تنقطع الأصوات بموت أصحابها تحت الركام.. رجال الإسعاف يتعرضون للاستهداف وهم يحاولون نقل الجرحى إلى المستشفيات، التي أصبحت هي نفسها، هدفًا للضربات الإسرائيلية، في اليوم الواحد خمس مرات وأكثر، كمستشفى كمال عدوان في شمال القطاع.. بل الأكثر إجرامًا، هو براميل المتفجرات التي يستخدمها جيش الاحتلال، لتفجير مربعات سكنية بأكملها، على رؤوس ساكنيها الذين لم يجدوا ملجًا بديلًا يفرون إليه.. حتى الأطقم الطبية والصحفيين، وكل من يحاول أن ينقل صورة الواقع الدامي في الشمال، يتعرضون للقتل!!.
ومع هذا.. تجد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أسعد الناس الآن، بل إنه عبَّر عن شكره للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، على بيانه (القوي)، الذي حذر فيه الفصائل الفلسطينية في غزة بأنها ستدفع (ثمنًا باهظًا)، إذا لم تطلق سراح الرهائن المحتجزين لديها.. إذ قال نتنياهو في فيديو قصير باللغة الإنجليزية خلال، اجتماع حكومي ونشره مكتبه، (أود أن أشكر الرئيس دونالد ترامب، على بيانه القوي بشان الإفراج عن الرهائن ومسئولية حماس)!!، مشيرًا إلى أن (هذا يضيف قوة أخرى إلى جهودنا المستمرة للإفراج عن جميع الرهائن).. وكان ترامب قد توَّعد بـ (جحيم) في الشرق الأوسط، ما لم يتم إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في قطاع غزة، قبل يوم تنصيبه في العشرين من يناير المقبل.
●●●
وكأن ترامب لم يستمع إلى بيرني ساندرز، السيناتور بمجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية فيرمونت، الذي يتفق مع الجنرال ووزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه يعلون، الذي اتهم الحكومة بالتطهير العرقي في شمال غزة، حيث أغلق الجيش الإسرائيلي بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا ومخيم جباليا للاجئين، ولم يسمح بدخول أي مساعدات إنسانية.. وقال ساندرز في منشور على منصة إكس، (وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يعلون مُحق.. حكومة نتنياهو ترتكب جرائم حرب وتطهير عرقي في غزة.. لا يمكنك محاربة الإرهاب بتجويع الناس وقتل عشرات الآلاف من المدنيين)، وعبر عن أمله في أن (ينضم إليه المزيد من القادة العسكريين الإسرائيليين في التحدث بصراحة)، وهو الذي رفض مجلس الشيوخ الشهر الماضي، محاولاته لمنع مبيعات الأسلحة الهجومية لإسرائيل، بسبب ارتفاع عدد القتلى المدنيين في غزة.
بل إن ترامب لم يستمع إلى ما قاله يعلون نفسه، وهو (شاهدٌ من أهلِها)، يشهد بالحق والواقع، وليس صوتًا عربيًا، يمكن أن يعتبره ترامب مُتجنيًا على دولة الاحتلال الصهيوني، أو مُتبليًا عليها بغير دليل، بل إن موشيه يعلون، الذي وُلِدَ باسم موشيه سميلانسكي ؛ في الرابع والعشرين من يونيو 1950، هو سياسي إسرائيلي ورئيس أركان سابق لقوات الدفاع الإسرائيلية، كما شغل منصب وزير الدفاع الإسرائيلي في عهد بنيامين نتنياهو، من عام 2013 حتى استقالته في العشرين من مايو 2016.. ترشح يعلون للكنيست عام 2019 باعتباره العضو الثالث في حزب (أزرق أبيض)، وهي قائمة مشتركة تم إنشاؤها عن طريق دمج حزب (الصمود) الإسرائيلي بقيادة رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي السابق، بيني جانتس، وحزب (يش عتيد) بقيادة يائير لابيد.. شغل يعلون لفترة وجيزة، المرتبة الثانية في قائمة (يش عتيد ـ تيليم) التي تم إنشاؤها بعد الانتخابات التشريعية الإسرائيلية عام 2020.. واعتزل السياسة في الفترة التي سبقت انتخابات عام 2021.
أثار موشيه يعلون، الحائز على العديد من الأوسمة، عاصفة من الجدل باتهامه إسرائيل بتنفيذ تطهير عرقي للفلسطينيين في شمال غزة.. إذ قال يعلون، الذي خدم لمدة ثلاثة عقود في الجيش الإسرائيلي، بما في ذلك في وحدة كوماندوز النخبة (ساييرت ماتكال)، ورئيس أركان الجيش، إنه يعتقد أن إسرائيل تفقد هويتها كديمقراطية ليبرالية، وتصبح (دولة مسيانية فاشية فاسدة وجُذامية).. وقال لقناة (ديمقراطية إسرائيلية)، إذا أردت أن ترى (الغزو والضم والتطهير العرقي، انظر إلى شمال غزة).. حتى أن المُحاور أعرب عن دهشته من استخدام يعلون لعبارة (التطهير العرقي)، وسأله: (هل هذا ما تعتقده.. إننا في الطريق إلى هناك؟). ليرد عليه يعلون: (لماذا في الطريق.. ما الذي يحدث هناك؟.. لا يوجد بيت لاهيا.. لا يوجد بيت حانون.. إنهم ـ يقصد الجيش الإسرائيلي ـ يعملون حاليًا في جباليا، وهم في الأساس يقومون بتطهير المنطقة من العرب).
لقد نفَّذ الجيش الإسرائيلي منذ شهرين عملية عسكرية مكثفة وقاتلة في شمال غزة، ـ يستكمل يعلون ـ مستهدفًا ما يقول إنهم من نشطاء حماس الذين عادوا إلى نشاطهم.. وقد أبلغ الجيش الإسرائيلي جميع المدنيين أنه من أجل سلامتهم، يتعين عليهم التوجه إلى منطقة إنسانية في جنوب غزة.. وقد رفض آلاف المدنيين الفلسطينيين المغادرة، بعد أكثر من عام من توجيه الأوامر لهم بالإخلاء إلى مناطق في غزة، تستهدفها أيضًا الغارات الإسرائيلية.. ووفقًا لبرنامج الغذاء العالمي، لم يُسمح إلا لعدد قليل جدًا من شاحنات المساعدات بالدخول إلى شمال غزة.. ولم تُقدم حكومة الليكود حتى الآن خطة للحكم في غزة بعد الحرب.. كما أنكرت أنها تنفذ اقتراح (الاستسلام أو الموت جوعًا) في شمال غزة، الذي طرحه الجنرال العسكري المتقاعد جيورا إيلاند.. رغم أنها درست الخطة.
وقال يعلون في مقابلة ثانية مع القناة الثانية عشر العبرية، (لقد وضعت مرآة أمام تصريحات العديد من الوزراء وأعضاء الكنيست في الحكومة.. يتم تنفيذ التطهير العرقي بشكل فعال؛ ليس لدي كلمة أخرى لوصف ذلك).. فقال المحاور، إن مثل هذه العبارة تثير ذكريات (الفترات المُظلمة) في التاريخ.. ليجيب يعلون، (هذا صحيح، وقد استخدمت هذا المصطلح عمدًا لدق ناقوس الخطر).. دعت الفصائل المتطرفة في السياسة الإسرائيلية إلى الاستيطان اليهودي في غزة منذ اندلاع الحرب تقريبًا، في أعقاب هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023.. وقد روَّج الجنود الذين يخدمون في غزة بانتظام لعودة غوش قطيف، مستوطنات غزة التي دُمِرَت عندما انسحبت إسرائيل من جانب واحد، من القطاع عام 2005.. واكتسبت الأفكار زخمًا: في أكتوبر، حضر مئات الناشطين والعديد من كبار الوزراء الحاليين مؤتمر غوش قطيف بالقرب من حدود غزة.. وقال وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، في مقابلة مع قناة (كان) التلفزيونية الإسرائيلية، (نحن بحاجة إلى البقاء هناك، نحن بحاجة إلى إنشاء مستوطنة يهودية مزدهرة هناك، لأن هذه هي أرض إسرائيل وأيضًا لأن هذا يضمن أمن سكان الجنوب)!!.
وانضم يعلون إلى فريق متنامي في الأسابيع الأخيرة، يرى أن العملية العسكرية الإسرائيلية في شمال غزة (تطهير عرقي).. في نهاية أكتوبر، نشرت صحيفة (هآرتس الإسرائيلية) افتتاحية بعنوان، (إذا كان الأمر يبدو وكأنه تطهير عرقي، فهو كذلك على الأرجح).. وفي الشهر الماضي، قالت منظمة Human Rights Watch، في تقرير من مائة وأربعة وخمسين صفحة، إن إسرائيل أشرفت على التهجير القسري الجماعي للفلسطينيين في غزة، في حملة مُتعمَّدة ومنهجية، ترقى إلى مستوى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية.. وقال جوزيب بوريل، كبير الدبلوماسيين في الاتحاد الأوروبي، إنه يعتقد أنه (ليس من قبيل المصادفة أن تُستخدم عبارة ـ التطهير العرقي ـ بشكل متزايد لوصف ما يحدث في شمال غزة).. وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية الشهر الماضي مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف جالانت، قائلة إنها لديها (أسباب معقولة) للاعتقاد بأن نتنياهو يتحمل المسئولية الجنائية عن جرائم حرب، بما في ذلك (التجويع كأسلوب من أساليب الحرب) و(الجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللا إنسانية).
بعد أن رأى ما يحدث في غزة، لم يعد بوسع وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه يعلون، استخدام اللقب الذي يستشهد به كثيرًا لوصف الجيش الإسرائيلي، بأنه الجيش (الأكثر أخلاقية) في العالم.. بل قال (إن الجيش الإسرائيلي ليس الجيش الأكثر أخلاقية اليوم، ومن الصعب عليَّ أن أقول ذلك).. إنه في حين قد يعتقد القادة العسكريون أن أفعالهم عملياتية بحتة، فإن السياسيين لديهم خطط أخرى في الاعتبار.. وكانت كلماته موجهة إليهم، (إنني أتحدث عن جنود يُحركون السكان، مُعتقدين أن ذلك لأغراض عملياتية.. ولكن نية سموتريتش، وبن جفير، وستروك، ودانييلا فايس، وهم جميعًا من المستوطنين المُعترف بهم، و(هي نية علنية ومُعلنة)، لإفراغ قطاع غزة من أهله تمامًا.
●●●
وقد أثارت تصريحات يعلون انتقادات شديدة من زملائه العسكريين السابقين والسياسيين الحاليين.. فقد هاجم بيني جانتس، الذي شغل أيضًا منصب رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي، يعلون بقوله، (إن الكذب وإلحاق الأذى بدولة إسرائيل وجيش الدفاع الإسرائيلي لا يتبع البوصلة.. وهذا خروج على القانون).. وقال نفتالي بينيت، الذي خدم أيضًا في وحدة الكوماندوز، سايريت ماتكال، (لقد بذل الجيش الإسرائيلي قُصارى جهده لتقليل الخسائر في أرواح المدنيين.. يتم إبعاد السكان عن الخطر من أجل سلامتهم.. ليس من حق الجيش الإسرائيلي فقط أن يفعل ذلك، بل إنه التزامه)!!.. وهو رجل كذوب.
وتوالت الانتقادات على يعلون، إذ أصدر الجيش الإسرائيلي بيانًا، علَّق من خلاله على تصريحات موشيه يعلون، رافضًا (الادعاءات الخطيرة حول التطهير العرقي في قطاع غزة)، وواصفًا تصريحات يعلون بأنها (تُسيء إلى الجيش الإسرائيلي وجنوده).. وأدان الرئيس الإسرائيلي، يسحاق هرتسوج، تصريحات وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق بشأن تنفيذ (إبادة جماعية) في غزة، مؤكدًا رفض (المؤامرات الدموية) ضد إسرائيل، (نرفض المؤامرات الدموية ضدنا، بما في ذلك ادعاءات الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي، وهي أكاذيب كاملة.. جنود الجيش الإسرائيلي لا يقتلون، ولا يُنفذون تطهيرًا عرقيًا)!!.. وأضاف أن (الادعاء بأن جنود الجيش يرتكبون أعمال إبادة جماعية وتطهير عرقي، ليس فقط خاطئًا ومنفصلًا تمامًا عن الواقع، ولكنه يضر أيضًا بجنودنا وقادتنا، وبالجهود الأمنية والسياسية لإسرائيل في أوقات الحرب، إنني أُدين وأرفض تمامًا)
ولم تتأخر ردود الفعل المُنددة من وزير الأمن القومي اليميني المتطرف، إيتمار بن جفير، الذي وكعادته، قال إنه من (العار) أن إسرائيل عيَّنت (شخصًا كهذا قائدًا للجيش ووزيرًا للدفاع)، فيما اعتبر حزب الليكود الذي يتزعّمه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أن اتهام يعلون (الكاذب)، (هدية للمحكمة الجنائية الدولية ولمعسكر أعداء إسرائيل)، إذ دأب يعلون مؤخرًا على الإدلاء بمواقف تعتبر صادمة في إسرائيل، منها دعمه جنودًا هددوا بعدم الحضور إلى الجيش كجنود احتياطيين، قائلًا إنه لو (كان ضابطًا في جيش هتلر) لرفض القيام بأمور معينة، مع تشديده على أنه (لا يُقارن) ذلك بالوضع في إسرائيل.
تفاعل موشيه يعلون، مع العاصفة التي خلَّفها في إسرائيل، بعد تصريحه بأن الجيش (ينفذ حرب إبادة) في شمالي غزة، وأكد أنه لن يتراجع عن أقواله، إن (ما قلته بشأن حرب الإبادة والتطهير العرقي في غزة، استند إلى ما أبلغني به ضباط يخدمون في شمال غزة).. قال يعلون، (يجب أن أحذر مما يحدث هناك: جرائم حرب تُرتكب هناك) في إشارة إلى شمال غزة.. وما صرح به هو، (لمنع رفع دعاوى قضائية أمام محكمة الجنايات في لاهاي، ضد جنود الجيش الإسرائيلي).. وبرَّر يعلون موقفه قائلًا، (إن جنود الجيش الإسرائيلي يتعرضون للخطر، وسيتعرضون لدعاوى قضائية في محكمة الجنايات.. وطالما أن الحكومة لا تتحمل المسئولية، وتُنشئ لجنة تحقيق رسمية، فإن دولة إسرائيل لم تعد دولة ديمقراطية).. وفيما يتعلق باتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله اللبناني، أوضح، (قبل شهر ونصف، وبعد نجاح الجيش الإسرائيلي، سمعنا دعوات من القادة في لبنان للعودة إلى قرار نزع سلاح حزب الله، لقد كانت فرصة تاريخية، لكن كانت هناك اعتبارات شخصية وأهدرناها).
(أنا لا أتحدث عن القتل الجماعي فقط.. لدي تعريف آخر، هو طرد السكان من منازلهم وتدميرها، كما يحدث في بيت حانون وبيت لاهيا).. يُضيف الوزير الأسبق، يعلون، ووفقًا له، فإن تصريحه لم يكن موجهًا إلى الجيش الإسرائيلي بل إلى السياسيين، حيث أفاد بأنهم (يدفعون الجيش الإسرائيلي إلى ارتكاب جرائم الحرب، ونحن هناك بالفعل.. يقوم المستوى السياسي بإجلاء السكان من شمال قطاع غزة وإعداد النواة الاستيطانية).. وأشار يعلون إلى مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء، (إن مذكرة الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو ليست بسببي.. وإذا كان لها ما يبررها، فليحكموا عليه.. أعتقد من الناحية الأخلاقية أن الكثير من الأشياء حدثت وليست في صالحنا).. و(على القيادة العليا أن تنتبه إلى ما يحدث، وعليها التأكد من ذلك.. إن عملها لا يتجاوز الحاجة العملياتية، ولسوء الحظ يتم جرهم إلى هناك، ولست متأكدًا من أنهم على علم بذلك، ولهذا السبب قمت بقرع الأجراس).
وسُئِل يعالون عما إذا كان في رأيه، أن محكمة العدل الدولية في لاهاي يجب أن تنظر في إصدار أوامر اعتقال ضد كبار مسئولي الجيش الإسرائيلي أيضًا، أكد، (للأسف، المحكمة لديها بالفعل قائمة بأسماء عدد غير قليل من الأشخاص، بما في ذلك من الجيش ولم يتم تفعيلها حتى الآن.. كان يجب إصدار مذكرات اعتقال ضد سموتريتش وبن جفير أيضًا منذ زمن طويل).. بل زاد يعلون من الشعر بيتًا آخرًا، حين أفاد بأن إسرائيل في طريقها إلى الديكتاتورية، وأن إسرائيل اليوم ليست دولة ديمقراطية والقضاء ليس مُستقلًا، (إننا في طور التحول من دولة يهودية ديمقراطية ليبرالية بروح إعلان الاستقلال، إلى دكتاتورية فاشية مسيحية وعنصرية وفاسدة ومجذومة ومارقة، تحمل أفكارًا غيبية).. وأوكد أخيرًا، أن قوات الجيش تُنفذ (حرب إبادة) في شمال قطاع غزة.. (لم يعد هناك بيت لاهيا أو بيت حانون.. الطريق الذي يتم جرنا إليه حاليًا، هي الغزو والاحتلال والضم والتطهير العرقي في قطاع غزة.. والنظر إلى الجزء الشمالي من قطاع غزة، وسمه ما تريد، استيطان أو مستوطنة يهودية).
●●●
لم يلتفت الرئيس الأمريكي المُنتخب، دونالد ترامب، على الأقل، إلى أنه ومنذ ثلاثة وخمسين يومًا، يواصل الجيش الإسرائيلي حصاره على شمال قطاع غزة، مستمرًا في قصف المنازل وتهجير السكان قسرًا، مع منع إدخال المواد الغذائية والطبية والضروريات الأساسية، حيث وسَّع الجيش الإسرائيلي من البقعة الجغرافية التي تستهدفها عمليات النسف والحرق للمباني السكنية في محافظة شمال قطاع غزة، مستخدمًا كل النيران، حتى براميل المتفجرات المُحرَّمة دوليًا.. بل إنه لم يُصخ السمع لما قاله موشيه يعلون وغيره، عن حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تُمارسها إسرائيل في قطاع غزة.. لم يستمع فقط إلا إلى تأكيد الحكومة الإسرائيلية وفاة عومر نيوترا، الذي يحمل جنسية مزدوجة أمريكية ـ إسرائيلية، ليحذر من (جحيم) في الشرق الأوسط، إذا لم يتم إطلاق سراح المحتجزين في قطاع غزة قبل تنصيبه في العشرين من يناير القادم.. وقال في منشور على موقع Truth Social، (إذا لم يتم إطلاق سراح الرهائن قبل العشرين من يناير القادم، وهو التاريخ الذي أتولى فيه بفخر منصب رئيس الولايات المتحدة، فسيكون هناك جحيمًا في الشرق الأوسط، سوف يدفعه المسئولون الذين ارتكبوا هذه الفظائع ضد الإنسانية، سيتضرر المسئولون أكثر من أي شخص آخر في التاريخ الطويل والحافل للولايات المتحدة الأميركية.. أطلقوا سراح الرهائن الآن!).. ولم يقل (أوقفوا الحرب الآن)!!.. أليس هذا غريبًا؟.
أغلب الظن، أن ما صدر عن دونالد ترامب، جاء نتيجة استفزازه، كما يرى الخبير العسكري والاستراتيجي، والمستشار في كلية القادة والأركان، اللواء أركان حرب، أسامة محمود كبير، (في تقديري أن دونالد ترامب قد تم استفزازه بشكل كبير بعد قيام حركة حماس بنشر التسجيل المُصوَّر للأسير الإسرائيلي حامل الجنسية الأمريكية، إيدان ألكسندر، مساء السبت الثلاثين من نوفمبر، والذي طالب فيه الأسير الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، وليس الحالي، جو بايدن، بأن يستخدم نفوذه المطلق لتحريره وباقي الرهائن).. ومن هنا، تجدر الإشارة إلى أن استدعاء شخص ترامب لحل الأزمة، عن أن يتم مخاطبة بايدن الرئيس الحالي، هو الحافز المؤكد لقيام ترامب بإطلاق مثل هذا التصريح الخطير، الذي يبدو كأنه لا يحمل في طياته قرارًا حقيقيًا ولو كان خفيًا، كونه يتعارض بشكل مباشر مع تصريحات الرجل، التي طالما روج لها إبان حملته الانتخابية، بأنه الوحيد القادر على إيقاف الحرب، ليس فقط في غزة، بل أيضًا في أوكرانيا.
إن هذا لا ينفي أيضًا، أن اعتبارات أخرى قد تكون في جعبة الرجل بشأن قطاع غزة.. بالنظر إلى تعيينه ستيفن وايتكوف، مبعوثًا شخصيًا له ورسميًا، لتولي ملف أزمة الشرق الأوسط، خصوصًا أن هذا الشخص الذي يُعرَف بأنه إمبراطور العقارات والمقاولات وبناء التجمعات السكنية والكومباوندات بالولايات المتحدة الأمريكية، مما يطرح سؤالًا، وهو: ما علاقة متخصص العقارات بحل الأزمات وفض الحروب والاشتباكات؟.. فهل من هنا يمكن طرح عبارة (والحر بالإشارةِ يفهم!!).. لننتظر ونرتقب فإن غدًا لناظره قريب.. العواقب الوخيمة ليست بالضرورة تدخلًا عسكريًا أمريكيا، ولكن تمرير خطط أخرى لصالح إسرائيل، منها مثلًا استيلاء إسرائيل على أجزاء من قطاع غزة (الشمال أولها)، وهو ما نرى بشأنه خطوات حقيقية على الأرض تحدث في الوقت الراهن فيما يعرف بـ (خطة الجنرالات)، التي تهدف إلى احتلال القطاع على مراحل.. نُلاحظ أن ترامب كان قد أطلق كلامًا خطيرًا منذ ثلاثة أشهر تقريبًا، إبان حملته الانتخابية قال فيه، (أليس من الغريب والرائع أن نشاهد إسرائيل، هذه الدولة الصغيرة حجمًا على الخريطة تدافع عن نفسها، وهي تحارب على أربع جهات في وقت واحد؟.. أليس لهذه الرقعة الصغيرة أن تتمدد وتكبر؟).. لذلك حتمًا هناك نوايا خطيرة يلزم لتنفيذها اعتبارات براجماتية، ومن هذه الاعتبارات موضوع الأسرى في يد حماس.
■■ وبعد..
وحيال كلام ترامب، دعت مصر، على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، إلى وقف العدوان على غزة فورًا، مؤكدة أنها ستتصدى بكل حسم وحزم، لأية مساعٍ لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير الأشقاء من أراضيهم.. وقال عبد العاطي، خلال كلمة في ختام مؤتمر القاهرة لـ (دعم الاستجابة الإنسانية في غزة) مساء الاثنين الماضي ـ الذي يهدف إلى تأمين التزامات واضحة بتقديم المساعدات لغزة، وتعزيز الدعم الدولي لضمان استدامة الإستجابة للأزمة الإنسانية في غزة، وحشد الجهود لتوفير المساعدات الإنسانية العاجلة لأهل غزة، والتخطيط للتعافي المبكر داخل القطاع ـ أن أهل غزة، الذين يواجهون يوميا آلة الحرب والدمار، ليسوا مجرد أرقام، بل هم بشر لديهم أحلام وطموحات وأطفال وشباب يتطلعون لمستقبل أفضل، وعائلات تطلب حقها المشروع في مكان آمن وصالح للحياة.. وأن دعم أهل غزة لا يمكن أن يتوقف عند تقديم المساعدات، لأن القضية لا تنحصر في الفاجعة الإنسانية في غزة والضفة، (بل نحن أمام عدوان إسرائيلي يجب أن يتوقف فورًا ودون إبطاء، كما يجب التوصل لحل جذري لإنهاء الاحتلال، الذي يتسبب في العدوان ويعيد إنتاجه كل عدة سنوات).. والمطلوب، هو العمل ضمن أفق زمني محدد واضح، لتحقيق السلام والعدالة للشعب الفلسطيني وضمان حقه في العيش بكرامة وأمان انتصارًا للعدالة والإنسانية، وأن مصر بقيادتها، ستستمر في بذل كل جهد ممكن لإنهاء هذا العدوان ووقف انتهاكات القانون الدولي والإنساني.. وطالبت بتفعيل منظومة المحاسبة الدولية على الجرائم التي ارتُكِبَت في حق المدنيين الفلسطينيين، لأنه لا دولة فوق القانون.
وشددت القاهرة على الموقف المصري الثابت بضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وتحمُّل سلطة الاحتلال لمسئوليتها بضمان النفاذ الفوري وغير المشروط للمساعدات لكل أنحاء القطاع، ووصولها إلى كل من يحتاجها، وتهيئة الظروف الآمنة لعمل المنظمات الإنسانية وفي مقدمتها وكالة (الأونروا)، التي لا بديل عنها في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية.. وأن مصر ستواصل تقديم كل الدعم للشعب الفلسطيني حتى يحصل على حقوقه، بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، مجددة الدعوة للدول التي لم تعترف بعد بدولة فلسطين للاعتراف بها، وحصول الدولة الفلسطينية على العضوية الكاملة بالأمم المتحدة، رافضة خلق أمر واقع، ودعم الشعب الفلسطيني الصامد في وجه ظروف غير إنسانية وغير مقبولة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.