جميعنا يعرف طلعت حرب كاقتصادي ومفكر مصري، وعضوًا بمجلس الشيوخ المصري، لعب دورًا كبيرًا في تحرير الاقتصاد المصرى من التبعية الأجنبية؛ ولكن ما لم يتناوله تاريخنا المصري علي نحو فيه نوع من التفصيل هو دوره الثقافي وعلاقاته برواد حركة الفكر والتجديد في مصر وأعلامها أمثال الإمام محمد عبده، والزعيم مصطفي كامل.
في ذكرى ميلاد الاقتصادي المصري طلعت حرب التي تحل علينا اليوم (25 نوفمبر 1867 - 13 أغسطس 1941)، نأخذكم في رحلة من المتعة الفكرية لهذا الرجل ودوره في صلح الإمام محمد عبده ومصطفي كامل الزعيم المصري؛ حيث كان ذا رسالة أدبية خاصة، فإن الأديب لا بد أن يكون ملمًا بجميع أحوال أمته وأطوارها وعاداتها وتقاليدها مستخلصًا لنفسه فكرة عن إصلاح المعوج من أمورها، وذلك هو (طلعت حرب) في جميع أدوار حياته، فهو صاحب فكرة في الإصلاح القوى العام، ظل يدعو إليها من بدء حياته حتى وفاته.
فقد عرفه الناس لأول مرة وفي صدر شبابه مؤلفًا تخرج له المطابع ثمرات ناضجة من تفكيره وشجونه، وتحتشد أنهار الصحف برائع مقالاته ودراساته، وله من الكتب كثير، منها: "المرأة والحجاب، وفصل الخطاب في المرأة والحجاب، وقناة السويس، وعلاج مصر الاقتصادى وإنشاء بنك للمصريين، ورسالة في الإسلام، ورسالة أخرى باللغة الفرنسية في الرد على مسير هانوتو الوزير الفرنسي المعروف حين هاجم المسلمين"؛ وغيرها من المؤلفات.
كيف أصلح طلعت حرب بين محمد عبده ومصطفي كامل ؟
يروى الكاتب أحمد الجندي تفاصيل الصلح بين محمد عبده ومصطفي كامل بوساطة من طلعت حرب في مقال نشرته مجلة العربي الثقافية عام 1974؛ حيث يقول: وهكذا تعضى احاديث الذكريات في ندوة طلعت حرب، ولكن الاحداث تقدر لها موقفا خطيرا وحدنا بالغ الاهمية، ذلك هو موقف طلعت حرب من صديقه مصطفى كامل والشيخ محمد عبده ومحاولته الاصلاح بينهما، وازالة أسباب الازمة.
الرجلان كانا في عصر واحد، وكان احداهما مصلحا اجتماعيا يشار اليه بالبتان. وكان الآخر سياسيا وطنيا يهز القلوب والاسماع وكان الكثيرون يظنون انه لو تم اللقاء بينهما التغير وجه التاريخ وقد نبتت الفكرة حين تحدث الى طلعت حرب فيها المجاهد لطيف سليم الحجازي باشا ( والد المرحوم فؤاد سليم الحجازي ( عن انقطاع الود بين الزعيم السياسي الشاب مصطفى كامل والزعيم الاجتماعي محمد عبده، فتمنى لطيف باشا على طلعت پاشا لو استطاع ان ينزيل بلبافته وکیاسته ما بين الزعيمين، فضلا عن صداقته لهما، وحسن مركزه عندهما.
ويروى طلعت حرب وقائع هذا التاريخ في ذلك الامر الحاسم لرواد ندوته فيقول:"كان من القرب الناس الى نفسي المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان الذي كان محررا بالوقائع. واتفق انه كان جاري في العباسية، وكان يقضى عندي اكثر سهرات المساء. وكان من خلفاء الشيخ محمد عبده، وكان من الرجال النوادر في العلم والفضل، فأردت أن أجعله وساطة الخير فدعوتهما معا: مصطفي كامل وعبد الكريم عندي في البيت لتناول الغداء، وجاء مصطفي كامل والشيخ سلمان مع بعض الأصدقاء من أهل الفضل وجلسنا نتكلم في مختلف الشئون العامة، ونتضاحك على الطعام. حتى رأيت الفرصة سانحة فدخلت الى الموضوع بلطف وتطرقت اليه وتيدا، فما أن ذكرت اسم الاستاذ الامام حتى قفز مصطفى كامل من مكانه وامتقع لون وجهه، وتطاير الشرر من عينيه. وجعل يقول في لهجة المتأثر كلاما قاسيا ليس لي ان اردده.
والى هنا عصر كل اكل بلقمته، وانفضت المائدة وكان عليها طبق شهي من الكنافة. فلم يمسه احد، ونهضنا الى غرفة الجلوس قشربنا القهوة في وجوم وصمت كانما تعن في مأتم، ثم انفض الجميع في أسوأ حال.
لقد كان موقف الشيخ عبد الكريم هو أكبر ما برج بي في هذه الساعة، فقد رأيت الله المين في بيتي، وانا الذي دبئرت لهذا اللقاء. ومن هنا عددت نفسى مسئولا عن الاهانة التي لحنت به، ولا سيما انه كان قال لى قبل الدعوة انه مشفق من نتائج هذا المؤتمر، فانه يعرف أن مصطفى حاد المزاج. وقد يشتد الموقف سوءا. بدلا من ان يصفو الجو قطعانت ساعتند خاطره. وبددت مواجه.
فلما حدث ما حدث لم ينبس الشيخ عبد الكريم ببنت شفة، وقد بقيت متألما له اشد الالم بعد انصرافه فلما كان المغرب قصدت الى بيته لاعتذر له.
ولكني لم اجده الامام. ولعله كان عند الاستاذ وقضيتها ليلة مسهدة طويلة، احاسب فيها نفسي. وأدبر ما أنا فاعل في غدي، فلما كان الغد لم أذهب إلي الدائرة السنية، وإنما بدأت بالذهاب إلي دار الافتاء، لالقى الشيخ عبد الكريم سلمان واعتذر له، فلم أجد الشيخ في غرفته. إذ كان مشغولًا عند بعض رؤسائه ولكني وجدت الاستاذ الامام محمد عبده. فسلمت وجلست فلم اكد استقر في مجلسي حتى بادرني قائلا: لقد حدثني الشيخ عبد الكريم يا طلعت بك ان الكنافة بالامس كانت شهية: فقلت يا مولانا: انما الاعمال بالنيات، وانما لكل امرئ ما نوى، هذا ما عندى من تعليق على حديث الامس ".