أشلاء متناثرة.. أطفال أصاب الشيب رأسهم.. الفزع والخوف ورائحة الدماء تحاوط الجميع.. صرخات النساء المغتصبات.. أصوات الرجال المقهورين لعجزهم عن الدفاع عن أسرتهم يعلو فوق أصوات الرصاص.. انفجارات هنا وهناك تشبه ليلة يملؤها البرق والرعد.. لا يوجد مكان لك للاختباء أو الاحتماء من الحرب التي اندلعت دون نهاية.
تلك المشاهد ليست من فيلم سينمائي مصنف كرعب نفسي؛ إنما هي مشاهد حقيقية يعايشها أهل فلسطين في كل ثانية من حياتهم منذ 7 أكتوبر 2023، حيث اندلاع "طوفان الأقصى"، الذي بموجبه اندلعت الحرب بين مصر والكيان المحتل، لتكون الأطول عمرًا منذ حرب 1948.
فمنذ بداية الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر 2023، وجد الجنود الإسرائيليون أنفسهم في مواجهة غير متوقعة مع الصدمات النفسية التي تجلّت في انتحار العديد منهم، ليصل عدد الجنود المنتحرين إلى أكثر من عشرة في الأسابيع الأولى من الحرب، في وقت يعجز فيه الجيش الإسرائيلي عن تقديم إجابات عن السبب الحقيقي وراء هذه الأزمة المدمرة.
يديعوت أحرنوت: انتحار 6 جنود في الأسابيع الأولى من "طوفان الأقصى"
وفي تقرير أعدته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أظهرت إحصائيات مروعة تفيد بأن 6 جنود إسرائيليين على الأقل انتحروا خلال الأشهر الأخيرة، والعدد قد يكون أكبر بكثير، في ظل رفض الجيش الإسرائيلي الكشف عن العدد الحقيقي للجنود المنتحرين.
وهؤلاء الجنود، الذين عايشوا المعارك العنيفة في غزة ولبنان، يعانون من اضطرابات نفسية حادة، نتيجة ما شاهدوه من مشاهد مرعبة كفيلة بتحويل حياتهم إلى جحيم مستمر، كما قالت الصحيفة: "أرقام المنتحرين تظل غير كاملة، بسبب السرية التي تفرضها المؤسسة العسكرية على هذه الحالات".
حالات الانتحار تتجلى في 2014
ورغم محاولات الجيش الإسرائيلي إخفاء هذه الأرقام، فإن الأوضاع النفسية للجنود أصبحت قضية تثير قلقًا كبيرًا، ففي عام 2014، تضاعفت حالات انتحار الجنود الإسرائيليين بشكل ملحوظ، حيث تم تسجيل 15 حالة انتحار مقارنة بـ7 حالات في العام 2013، ليكشف تقرير عن الجيش الإسرائيلي عن الصدمات النفسية العميقة التي خلفتها حرب غزة.
وفي العام 2022، انتحر 14 جنديًا، بينما بلغ عدد المنتحرين في السنوات التي تلت الحرب على غزة حوالي 10 جنود، لكن الأرقام تواصل ارتفاعها بشكل مقلق في 2023، حيث تتسارع الأزمات النفسية مع استمرار الحرب ضد الفلسطينيين في غزة.
قصص انتحار الجنود
ولم يتمكن الجيش من التغلب على الأزمة، حيث استمر الارتفاع في حالات الانتحار، وكان أبرزها انتحار الجندي إيليران مزراحي في 10 يونيو 2023، بعد معاناته من اضطراب ما بعد الصدمة نتيجة مشاركته في الحرب في غزة.
وهناك أيضًا قصة انتحار الضابط أساف دغان، 37 عامًا، في 25 أكتوبر الماضي، بعد أن عانى من اضطراب نفسي حاد عقب مشاركته في المعارك، وفقًا لصحيفة "يديعوت أحرنوت".
ورغم أن الجيش الإسرائيلي حاول التقليل من تأثيرات هذه الأزمة النفسية، إلا أن التقارير تشير إلى أن حوالي ثلث الجنود المتأثرين نفسيًا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، ما يجعلهم في حالة من الصراع الداخلي بين ضغوط الحرب وتأثيراتها النفسية المدمرة.
وتُظهر أرقام وزارة الدفاع الإسرائيلية أن معظم القتلى الإسرائيليين في هذه الحرب سقطوا على جبهة غزة، ما يسلط الضوء على الفداحة النفسية التي يواجهها الجنود الإسرائيليون جراء المعارك الطويلة والعنيفة.
آلاف الجنود يعانون اضطرابات نفسية
وأكدت تقارير "جيروسالم بوست" أن آلاف الجنود الإسرائيليين يعانون من اضطرابات نفسية حادة، وأن 35% منهم يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، بينما يواجه 40% آخرون ضغوطًا نفسية قد تتطور إلى حالات مرضية خطيرة، كما سجلت تقارير صحفية أخرى ارتفاعًا في عدد الإصابات النفسية بين الجنود والمدنيين الإسرائيليين جراء الحرب المستمرة، فيما تواصل حكومة الاحتلال البحث عن حلول لهذه الأزمة المتفاقمة.
طبيب نفسي: الحرب المفاجئة على غزة زادت من الضغوط النفسية
وفي هذا الإطار، قال الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، إن أهمية التأهيل النفسي للمقاتلين قبل الحروب لرفع الروح المعنوية وتوفير الاحتياجات الأساسية لهم، مؤكدًا أن الحرب المفاجئة على غزة زادت من الضغوط النفسية على الجنود الإسرائيليين بسبب عدم وضوح الهدف والشعور بعدم الأمان، مما أدى إلى تدهور حالتهم النفسية وزيادة الاضطرابات مثل الاكتئاب والوسواس القهري والميول الانتحارية.
وأضاف "فرويز"، في حديثه، أن الأعراض النفسية قد تتفاقم بعد انتهاء القتال، خاصة في الحروب الطويلة التي تفتقر إلى خطة لما بعد المعركة.
محلل فلسطيني: الأزمات الداخلية أدت لانتحار وهروب الجنود
وأوجع الدكتور عماد عمر، المحلل السياسي الفلسطيني، ما تواجه دولة الاحتلال من أزمات داخلية إلى ما شهدته قوات الاحتلال في غزة، ما أدى إلى حالات انتحار وتهرب من الخدمة، مشيرًا إلى تحذيرات ضباط الجيش من الظروف الصعبة التي يعيشها الجنود، لكن الحكومة لم تستجب.
وأضاف "عمر"، في حديثه، أن هذه الأزمات تضاف إلى الضغوط التي يواجهها "نتنياهو" من الملاحقات القضائية والخسائر في لبنان وأهالي المحتجزين لدى حماس.
خبير في الشأن الإسرائيلي: 85% من الجنود الذين خدموا في غزة بحاجة إلى علاج نفسي
وأخيرًا، أكد عمر جعارة، الخبير في الشأن الإسرائيلي، أن الأزمات النفسية، مثل حالات الانتحار، تعكس فشل الجيش الإسرائيلي في التعامل مع تداعيات الحرب في غزة، مشيرًا إلى أن 85% من الجنود الذين خدموا في غزة بحاجة إلى علاج نفسي دائم، وأن إعادة استدعائهم للخدمة هناك يزيد من الأزمات النفسية.
وأضاف "جعارة"، في حديثه، أن الحرب الطويلة والمستمرة، التي تجاوزت 400 يوم، تعكس عجز الجيش عن تحقيق انتصار حاسم، مما يزيد من تعقيد الموقف النفسي للجنود، ويرى أن تصريحات القادة الإسرائيليين، مثل دعوة "يوآف غالانت"، عضو الكنيست الإسرائيلي، للخروج من غزة، تعكس يأسًا سياسيًا وتعميقًا للأزمات الداخلية.