ميّز الله الإنسان بالعقلِ، لا بوصفه أداةٌ للتفكير فحسبْ، بل باعتبارهِ ميزانًا أخلاقيًا يوجه الفعل ويضبط الاختيار، ومن هذا الوعي تنبع مسؤولية الإنسان في تعاملهِ مع كل ما يبتكره.
وعلى رأسه أدوات الذكاء الاصطناعي التي باتت شريكًا في إنتاج النصوصِ الأدبيةِ، فكما أن العقل يحرر الإنسان من الانسياق الغريزي فإن الأخلاق وحدها هي الكفيلة بأن تحرر الإبداع من العشوائيةِ، وتضع حدودًا واضحة بين الاستفادة الواعية والتوظيف المضلل.
لكن التحدي الأكبر لا يكمن في امتلاكِ هذه النعمة الجليلة، بل في كيفيةِ توظيفها حين تواجه البشرية منعطفات تكنولوجية حاسمة فمع كل نافذة جديدة للتطوير يبرز اختبار حقيقي لعقل الإنسان واخلاقياته:
- هل ينحرف إلى دوائرِ المصالح المحدودة والاستغلال غير المسئول؟ ام يوجه هذ التطور التكنولوجي الناشيء نحو النفع العام والتطوير الحضاري؟
تأتي أدوات الذكاء الاصطناعي اليوم بوصفها أحد أبرز الاختبارات المعاصرة لعقل الإنسان والتماسك أخلاقيًا لا سيما في مجالات الإبداع الأدبي والفكري. فبينما يتسابق أهل العلم والحكمة إلى توظيفِ هذه التقنية في خدمة الإنسانية، وفتح مدارك جديدة للكتابةِ والمعرفة، تبرزُ في المقابلِ مخاطر حقيقية تتصل بانتهاك الحقوق الفكرية، وتشويه مفهوم الإبداع، وإفراغه من قيمته الإنسانية والتخلي عن الروح والمعايشة النصية واستبدالها بـ "الكتابة الآلية الجامدة ".
ومن هذا المنطلق، تتأكد الحاجة المُلحة إلى ميثاق شرف أخلاقي يضبط استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، ويحدد أُطر الاستفادة منها، بما يضمن صون الإبداع الأدبي، وحماية الحقوق الفكرية، وترسيخ الأمانة المعرفية.
وللحفاظ على مقتضيات استخدام ادوات الذكاء الاصطناعي ، علينا ان نلتزم بالحفاظ على الهوية الفكرية ومنع الانتحال.
فاحترام الهوية الفكرية للمبدع يُعد من الثوابت الأساسية لأي ممارسة أخلاقية، ويقتضي ذلك رفض سرقة النصوص والأعمالِ الأدبية بجميع أشكالها، ولما يمثله هذا السلوك من انتهاك صريح للملكات والحقوقِ الفكرية، ويعد تمرير النصوص المنتجة او المعدلة آليًا على أنها إنتاج شخصي انتهاكًا صريحًا للأمانة الفكرية، ويقع ضمن الجرائم الأدبية التي تستوجب المساءلة الأخلاقية والقانونية .
وانطلاقًا من ذلك، تبرز الحاجة إلى ترسيخ الوعي بأن الذكاء الاصطناعي أداةٌ مساعدة لا بديلًا عن الإبداع البشري، وهو ما يفرض مراجعة النصوص مراجعة دقيقة وواعية قبل نشرها، والتحقق من خلوّها من الاقتباس أو التعديل الآلي غير المُعلَن، منعًا لتضليل القارئ أو الإخلال بحقّه في المعرفة.
ومن مقتضيات الأمانة الأدبية أيضًا الالتزام بالشفافية والإفصاح، وذلك عبر التصريح الواضح عن أي استخدام لأدوات الذكاء الاصطناعي في إنتاج النص أو صياغته أو تعديله، بما يضمن التمييز بين الجهد الإنساني الخالص والمخرجات التقنية، ويُعزّز العمل للصالح العام بعيدًا عن المنفعة الشخصية الضيقة.
كما تظلّ المساءلة مسؤولية بشرية لا يجوز إسقاطها على التقنية، ويشمل ذلك الالتزام بالإشارة الدقيقة إلى المصادر عند الاقتباس المباشر أو غير المباشر، والإفصاح عن أي إعادة صياغة أو تعديل في النصوص الأصلية، بما يُسهم في ترسيخ مبادئ المعرفة والإبداع المسؤول، ودعم مسارات التنمية المستدامة.
إن احترام هذه الضوابط يُعدّ خطوة أساسية في حماية القيم الإنسانية من التآكل التكنولوجي، فنحن اليوم في مرحلة متقدمة من العبور نحو عِقد جديد تُعيد فيه مجتمعاتنا تشكيل علاقتها بالتقنية في مسارٍ يقود إلى تطور تكنولوجي متسارع لا يجوز الهروب منه، بل ينبغي خوضه بوعيٍ ومسؤولية، واستثمار ثرواته المعرفية لصالح المجتمع والأجيال القادمة. فالتقدم لم يصنع ليكون أداة هدم أو وسيلة إنفلات أخلاقي، وإنما وجد لتحقيق المنفعة العامة وتوسيع الآفاق وخلق فرص جديدة للإنتاج والإبداع، لذلك تظل الرغبة المُلحة في إنشاء وتطوير ميثاق أخلاقي لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا فكريًا في هذا العقد الزمني وفي هذه المرحلة المتطورة تكنولوجيًا ولكن بات أمر ضروريًا ،حتى تظل التقنية الحديثة خادمة للإنسان لا مدمرة له ومتسلطة على فكره وإبداعه.
وحتى نضمن إنتاجًا واعيًا يحتفظ بالروح والمشاعر لا إنتاج آلي فاقد الأهلية والإنسانية والمعايشة الواقعية.
وهي الغاية التي نسعى إليها لنسموا في إطار من الحكمة والتوازن ،وهي الحكمة أيضًا من منح الإنسان نعمة العقل.


















0 تعليق