اذا كان العريّ نضالاً … فماذا تكون قلّة الحياء؟

ليست المرّة الاولى التي تنطلق فيها حملات شعبية تحت مُسمّى "الحرية" ضدّ أي ممارسات قمعية في بعض الدول، لكنّ للجمهورية الايرانية الاسلامية حصّة الأسد دوماً من الحملات المدعومة غربياً وفق تقارير اجنبية، رغم التراجع الكبير في تطبيق القوانين الصارمة منذ حادثة وفاة الشابة مهسا أميني بعد أيام من احتجازها لدى الشرطة بتهمة عدم الالتزام بقواعد الحجاب. غير أن مقطعاً مصوّراً لفتاة متعرّية في احدى جامعات طهران كان من شأنه أن يُعيد قضية "قمع النساء" في إيران الى الواجهة من خلال حملات تتستّر بغطاء "الحرية" بدافع التصويب السياسي.

Advertisement


 مما لا شكّ فيه أن الواقع في إيران مختلف تماماً عن الشكل الذي يسعى "الرأس المدبّر" لإظهاره، إذ إن جولة سريعة في العاصمة طهران كفيلة بأن تكشف لك حقائق عن طبيعة هذا المجتمع واختلافه وتنوّعه. ورغم التجاوزات التي كانت تحصل من قِبل دوريات "شرطة الاداب" التي كانت تمارس تضييقاً على النساء وتفرض ارتداء الحجاب في شوارع البلاد، الا أنّ تواجد عناصر الشرطة بدأ بالانحسار تدريجياً منذ اكثر من عام ونصف تقريباً، وهذا دليل على أن المجتمع الايراني بدأ يشهد تحولات فكرية حاله حال بعض المجتمعات العربية سيّما في منطقة الخليج، وليست التغييرات التي قام بها ولي العهد محمد بن سلمان في بنية المجتمع السعودي سوى مثالاً على هذه التحولات التي منحت المرأة حرية أكبر ومكّنتها داخل المجتمع السعودي على كافة المستويات.

 وبمعزل عن أن الحجاب في الدول الاسلامية هو واجب شرعي، غير أنه من غير المقبول أن يكون إلزاماً يعاقب عليه القانون مهما ارتفعت الأصوات المتزمّتة المطالبة بالتصدّي لظاهرة خلع الحجاب والحدّ من الحرية الشخصية للأفراد. وبالعودة الى المقطع المصوّر الذي انتشر لفتاة كانت قد بادرت الى التجرّد من ملابسها لأسباب لم يتمّ تأكيدها حتى اللحظة وسط تضارب في المعلومات، فإنّ ردود الفعل التي أتت عقب انتشار هذا المقطع كان لا بدّ من التوقّف عندها ومناقشتها سيّما وأن الحرية الشخصية التي هي مبدأ أساسي في المجتمع البشري باتت اليوم في خطر كبير في ظلّ تشويه الغرب لهذا المفهوم وحصره فقط في حرية التعرّي وحرية السلوك. 

من المؤسف طبعاً أن تتحوّل الحرية الى اشكالية حتى تظهر في بعض الأحيان كوسيلة لنسف المجتمعات العربية المحافظة، على اختلاف طوائفها ومكوناتها، وإذا كانت هذه الحرية تتركّز حول رفض فرض ارتداء الحجاب، فإنّ حظره ومنع المرأة من ارتدائه كما يحصل في بعض الدول الأوروبية هو أيضاً انتهاك للحرية، وتعدٍّ غير مبرر على حق المرأة بممارسة المعتقدات الدينية. وهُنا نصبح أمام معادلة واضحة تتمثّل في أن أي فرض أو منع يمسّ خيارات الفرد في المجتمع هو انتهاك بكل المقاييس لحريته الشخصية.

 ولكن، لماذا يصار الى تحويل جسد المرأة لحلبة صراع سياسي يتقارع حوله إعلامياً الاعداء والخصوم؟ أوليس هذا نوع من انواع "التسليع" للمرأة الذي نرفضه ونرفض مبدأ تحويل  جسدها إلى فكرة احتجاج ضدّ الدكتاتورية ونرفض أيضاً استخدام جسدها سلاحاً لنضال محقّ ينتقص من كرامتها في مجتمع لا يزال يحكمه الدين والعادات والتقاليد؟

 وبمعزل عن بعض التقارير التي تحدّثت عن ان الفتاة تعاني من اضطرابات نفسية دفعتها الى مثل هذا التصرّف في صرح تعليمي خاص له شروطه وقوانينه، ويحقّ لعناصر الأمن اتخاذ كل الاجراءات القانونية بحقّ كلّ من يخالف هذه القوانين، غير أن الاستثمار فيه تحت شعار "الحرية لايران" بات يطرح علامات استفهام كبرى حول هذا التحدّي الكبير الذي يخوضه بعض النشطاء والمؤثرين وحول خلفياته وتداعياته على المجتمعات المتماسكة. 

من وجهة نظري بتّ ارى في مفهوم الحرية المُفصّل على مقاس الأنظمة الغربية، يشكّل نوعاً من انواع الاستبداد الفكري، وشكلاً سلساً من أشكال  الاستعمار، إذ إنّ حقّ الفرد في حريته واختياراته يجب أن يتّسق ويتوازن مع حرية المجموعة بحيث لا تتحوّل الحرية الايجابية الى سلبية تطال الترابط المجتمعي وتمسّ بالمبادىء الاخلاقية. اضافة الى ذلك فإنه متى أصبحت الحرية انتقائية وسقطت في وحل الازدواجية تحوّلت الى مشروع يثير الشكوك ليصبح رادعاً للافراد من دون أن ندري! 

مثال على ذلك، أولئك الذين خاضوا معركة الدفاع عن حرية " فتاة الجامعة" في خلعها للباسها وجعلوا منها بطلة تواجه أساليب التسلّط والقمع ضدّ المرأة في بلادها، لم يرفّ لهم جفن في قضية المرأة الفلسطينية والانتهاكات الوحشية لحقوقها وحريتها وحقها في الحياة. كذلك الامر ينسحب على النساء في السودان اللواتي تعرّضن لعنف جسدي وجنسي خلال الحرب الدائرة بحسب تقارير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش"، فأين اختفت اصوات الحقوقيين والحقوقيات في هذه القضايا؟ ولماذا حرّكهُم جسد عارٍ في وجه ايران، ولم يحرّكهم واقع مُرير بل مُريع لنساء اخريات في بقعة أخرى من الأرض؟

يبدو أننا بتنا أمام عدوان آخر، عدوان على ثوابتنا الدينية والاخلاقية وقيمنا الاجتماعية من خلال محاولات بائسة لتطويع مجتمعاتنا المحافظة بكل طوائفها لتسهيل احتلالنا والقضاء علينا وتحويلنا لمجتمعات مفكّكة ومنحلّة يرفض الغرب المحافظ نفسه العيش فيها. 

مشكلتي ليست مع الحرية في الأساس، ولا مع حرية اللباس، لكنّ مشكلتي مع "الهجمة" التي حصلت دفاعاً عن ما يمثّل خرقاً فاضحاً للدين والقوانين والاعراف والتقاليد، وكأن خلع ثيابنا في الجامعات او مراكز العمل او الطرقات العامة من منطلق الحرية الشخصية بات أمراً يجب ان يصبح مقبولاً. يقول الكاتب احسان عبد القدوس: "قبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك، لأيّ غرض ستهبها".  

سمحت لنفسي بالرد على الحملة الهجمية التي يقودها البعض بحجّة ايران، لأنني انا المتحررة التي لم تخضع يوماً للعادات والتقاليد أردتُ أن أسألكم: اذا كان إظهار الجسد عارياً في كل مكان ومن دون اي اعتبارات نضالاً وتقدّماً وانفتاحاً، فماذا تكون قلّة الحياء؟

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق استقرار سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 18 نوفمبر 2024
التالى 1375 تدريبًا للبرنامج القومى "مودة" خلال الفصل الدراسى الأول من العام الجامعي