ومع تطور الصراع الإقليمي وتعقيد أدوات الحرب، شهدت بعض حركات المقاومة تحولات في طبيعة تسليحها وقدراتها، من بينها حزب الله، الذي انتقل تدريجيا إلى امتلاك منظومات صاروخية متقدمة، وصولا إلى صواريخ بعيدة المدى. هذا التحول لا يمكن فصله عن البيئة الأمنية والسياسية المحيطة، ولا عن طبيعة التهديدات المتراكمة، لكنه في الوقت نفسه يفتح بابا مشروعا للنقاش حول طبيعة الدور وحدود الفعل.
فامتلاك قدرات استراتيجية يعد تقليديا جزءا من عقيدة الجيوش النظامية، لا من أدوات المقاومة الكلاسيكية. ومع هذا الانتقال، تتغير قواعد الاشتباك، وتصبح المواجهة أقرب إلى صراع بين منظومتين عسكريتين غير متكافئتين، ما يفرض تحديات إضافية على أي طرف لا يمتلك مقومات الدولة الكاملة، من غطاء جوي، واقتصاد حرب، وبنية سياسية جامعة.
لسنوات، ساد اعتقاد بأن الجبهة الداخلية الإسرائيلية تشكل نقطة ضعف مركزية، وأن الضغط الصاروخي يمكن أن يحقق نوعا من الردع. هذا التصور لم يكن حكرا على خطاب المقاومة، بل كان حاضرا أيضا في الإعلام الإسرائيلي، الذي تعمد في مراحل متعددة التركيز على حساسية المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين في زمن الحرب، وما يمكن أن تسببه أي مواجهة طويلة من كلفة داخلية مرتفعة.
غير أن الوقائع اللاحقة أظهرت أن إسرائيل عملت بشكل متواصل على تحصين جبهتها الداخلية، وتطوير أدوات تفوق نوعي، شملت سلاح الجو، وأنظمة الدفاع الجوي متعددة الطبقات، والتقدم التكنولوجي، إضافة إلى الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي في مجالات الرصد والاستهداف وإدارة المعركة.
اليوم، لم يعد ميزان القوة يقاس بعدد الصواريخ أو مداها فحسب، بل بمدى تكامل المنظومة العسكرية، والدقة الاستخبارية، وسرعة اتخاذ القرار، والقدرة على إدارة الصراع بأقل كلفة ممكنة، وهو تحول يفرض إعادة تقييم مستمرة لمفاهيم الردع والفعالية، في ظل تغير طبيعة الحروب وأدواتها.
في هذا السياق، يبرز التحدي الأساسي في الجمع بين دور المقاومة ودور الردع الاستراتيجي. فهذا الجمع، مهما كانت دوافعه ومبرراته، يتطلب إمكانات سياسية واقتصادية وعسكرية متكاملة، وهو ما يجعل المهمة شديدة التعقيد في ظل واقع إقليمي متقلب وحروب مفتوحة على أكثر من جبهة.
ومع ذلك، يمكن القول إن إسرائيل، رغم اندفاعها العسكري، لا تزال تخوض حروبا مفتوحة على جبهات متعددة، من سوريا إلى لبنان وغزة، من دون أن تتمكن من تثبيت معادلة حسم واضحة أو نهائية في أي منها. في المقابل، ورغم ما أصاب حزب الله من تراجع نسبي بفعل الضغوط العسكرية والأمنية، فإنه لا يزال قوة فاعلة في معادلة الصراع، ويعمل على إعادة تنظيم صفوفه وبناء قدراته العسكرية وفق ما تسمح به الظروف.
ويبرز في هذا الإطار دور الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، الذي تولى المسؤولية في مرحلة بالغة الحساسية، مدركا طبيعة المخاطر التي تحيط بهذا الموقع، لا سيما بعد اغتيال إسرائيل للسيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين. ورغم كل التهديدات الإسرائيلية، اختار البقاء في موقعه وتحمل المسؤولية، في وقت فضل فيه آخرون الابتعاد عن خطوط المواجهة المباشرة خلال الحرب وغادروا إلى إيران والعراق.
وفي السياق نفسه، تتكرر محاولات بث شائعات تتعلق بتغييرات محتملة في قيادة الحزب أو بتدخلات خارجية في بنيته التنظيمية، وذلك في ظل الترتيبات التنظيمية التي أجراها الشيخ قاسم، والتي هدفت إلى إعادة ضبط الأدوار والمسؤوليات داخل الحزب، وأدت إلى تقليص هامش تأثير من تلكأ في أداء دوره ومهامه. وهي شائعات باتت مصادرها معروفة، ولا تنفصل عن ردود فعل داخلية على هذه الترتيبات، وتعكس اعتراضات غير معلنة على هذه الإجراءات الداخلية.
في المحصلة، تبقى تجربة حزب الله جزءا من مشهد صراعي مفتوح، لا يمكن اختزاله في ثنائيات النجاح أو الفشل. وقراءتها بهدوء وموضوعية تظل ضرورة لفهم طبيعة التحولات الجارية في المنطقة، بعيدا عن الخطاب التعبوي أو الأحكام المسبقة، وبما يخدم نقاشا عاما أكثر نضجا حول مستقبل الصراع مع إسرائيل ومعادلاته.













0 تعليق