فيما كانت واشنطن تتراجع خطوات إلى الوراء على خطّ الجبهة اللبنانية، خصوصًا بعد التصريحات الأخيرة لموفدها الرئاسي توم براك، حين لوّح بتحرّك إسرائيلي وشيك، في حال عدم نزع سلاح "حزب الله"، يبدو أنّ القاهرة تقدّمت خطوةً إلى الأمام؛ فقد سُجّلت خلال الساعات الماضية حركةٌ مصريةٌ نشطة، تُدرَج ضمن مساعٍ إقليميّة لتثبيت التهدئة في لبنان، خصوصًا بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
على الأرض، تحرّك السفير المصري في بيروت علاء موسى، فعقد لقاءات متتالية مع الرؤساء الثلاثة، مؤكّدًا على هامشها أنّ بلاده تبذل جهودًا لتهدئة الأوضاع في الأراضي اللبنانية، على وقع التطوّرات والاعتداءات الإسرائيلية. وترافق ذلك مع حديثٍ متزايد عن زيارةٍ "استطلاعية" لمدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد إلى بيروت، تمهيدًا لوساطةٍ تُعيد تشغيل قنوات خفض التصعيد في مواجهة مؤشّراتٍ على قرب انفلات الميدان.
ويأتي الحراك المصري بعد تراجع الوساطات الدولية، وخصوصًا الأميركية، التي يرى كثيرون أنّها أفرِغت من مضمونها بنتيجة تصريحات توم براك الأخيرة، التي تخلّى فيها صراحةً عن دور "الوسيط"، وانحاز بوضوح إلى أحد الطرفين، كما يأتي أيضًا على وقع التسريبات الإسرائيلية المتصاعدة في الأوساط الإعلامية والسياسية على حدّ سواء عن "حسم قريب" في لبنان، فهل تنجح مصر في المهمّة، وتملأ فراغ الوساطات؟
لماذا مصر الآن؟
هكذا إذًا، لم يعد الحراك المصري على خطّ لبنان خبرًا جانبيًا، إذ تكثّفت خلال الساعات الماضية الإشارات إلى انتقال القاهرة من الاكتفاء بوضعية المراقبة إلى التحرك علنًا وبلا مواربة، وهو ما يدفع كثيرين إلى طرح السؤال المحوري: لماذا تحرّكت القاهرة الآن تحديدًا، وما الدوافع والأهداف الكامنة خلف هذا الحراك المستجدّ؟ وبمعنى آخر، ما الذي تريده القاهرة، وما الذي يمكن أن تقدّمه على هذا المستوى؟
هنا يشير العارفون إلى مجموعة من العوامل التي راكمت الحاجة إلى وسيطٍ إقليمي "ثقيل"، إن صحّ التعبير، من طراز القاهرة، أولها انسداد المسارات الدولية، إذ بدت قنوات الوساطة الغربية، ولا سيما الأميركية، أقل فاعلية في الأيام الأخيرة، بدليل أنّ السردية التي حملتها زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس والإشارات الإسرائيلية المرافقة لها مالت إلى تشديد الشروط ورفع النبرة أكثر من تثبيت وقف نارٍ مستدام، مع تلويحٍ إعلامي-سياسي بأنّ نافذة الخيارات تضيق.
يقود ذلك إلى العامل الثاني، ربطًا بتشابك الميدان مع الرسائل السياسية، فإسرائيل واصلت الضغط بالنار، وتوسيع بنك الأهداف، فيما كانت واشنطن تترك عبر رسائل دبلوماسية تكاد تبرّر الخروقات الإسرائيلية، ولا تقترب من تقديم أيّ ضمانات أمنية أو سياسية لا بدّ منها في هذه المرحلة، وهنا تحديدًا تبرز مصر كوسيطٍ قادرٍ على محاورة تل أبيب وواشنطن ودوائر لبنانيةٍ متعدّدة في آنٍ واحد، وهي ميزةٌ خبرتها القاهرة تاريخيًا.
ولا ينتقص كلّ ذلك من العامل الثالث الذي لا يقلّ شأنًا عن سابقيه، فالرهان المصري اليوم يستند إلى حدّ بعيد، وفق الكثير من القراءات، إلى تجربة، أو "سابقة" غزة، إذ إنّ القاهرة لعبت دورًا محوريًا في مفاوضات غزة إلى جانب قطر، ضمن تنسيق لصيق مع واشنطن. ولعلّ هذا النموذج هو ما تسعى مصر إلى "استنساخه" في لبنان، بشكل منهجي ومدروس، ومع مراعاة أنّ الساحة اللبنانية أكثر تعقيدًا وحساسية في البُنى الداخلية وقواعد الاشتباك، ما يتطلب مقاربة مختلفة.
بين واشنطن وتل أبيب والداخل
أبعد من سؤال "لماذا مصر الآن"، أسئلة كثيرة تُطرَح على هامش الحراك المصري، بينها ما يتعلق بتموضع مختلف الأطراف المعنيّة منه، بما في ذلك الأميركيون والإسرائيليون، فضلاً عن مقاربة الداخل اللبناني، بما يشمل "حزب الله"، لهذه الوساطة، والحدود التي قد تكون متاحة لها، أو ربما "هامش المناورة" المسموح، وكلّ ذلك يقود إلى السؤال الكبير: هل تمتلك هذه المبادرة فعلاً بين طيّاتها فرص النجاح؟
حتى اللحظة، تبدو المهمّة بحسب المعطيات الأولية المتوافرة، استطلاعية ولم تخرج من دائرة "جسّ النبض"، هدفها المُعلَن استكشاف هوامش التهدئة وإعادة فتح قناةٍ تفاوضية تُخفّض المخاطر بالحدّ الأدنى. إلا أنّ ما يميّز هذه الوساطة عن غيرها يكمن في خصوصية القاهرة، وما تمتلكه من أدوات تأثير متشعبة، فضلاً عن أنها وسيط مقبول في الإقليم ولا يُقرأ حضوره كاستفزاز مباشر لأي طرف لبناني مركزي.
هنا، ثمّة من يسأل: أين تقف واشنطن وتل أبيب من "النافذة المصرية"؟ قد يكون من المبكر لأوانه الحصول على إجابة، لكن بالنسبة إلى واشنطن، تفيد "النافذة المصرية" كمسارٍ موازٍ يُخفّض الكلفة من دون أن تُضطر الإدارة إلى تقديم ضماناتٍ مكتوبة لا تستطيع تمريرها الآن. أما إسرائيل، فأجواؤها لا تزال غير ناضجة، وسط انطباع سائد بأنّها توظف التصعيد المحسوب لرفع سقف التفاوض، مع التلويح بأنّ التهدئة في غزة قد تحرر أوراق ضغط في لبنان.
لبنانيًا، تبقى القاعدة الحساسة هي تمرير أيّ مسار عبر الدولة مع تجنّب الشعارات الحدّية. بمعنى آخر، فإنّ لبنانيًا، المطلوب لغة رسمية موحّدة تُقلّص التناقض بين الرسائل السياسية والميدانية، وخطواتٌ محدودة قابلة للقياس: تقليص نقاط الاحتكاك، آليةٌ سريعة لمعالجة الخروق، وضبط الخطاب التحريضي. وثمّة من يرى أنّ نجاح القاهرة هنا مرهونٌ بمدى قدرة القوى اللبنانية على توفير "غطاءٍ كافٍ" لخطوات التبريد من دون كلفةٍ سياسية إضافية داخليًا.
الثابت حتى الآن أنّ القاهرة لا تَعِدُ بحلٍّ سحري، بل بممرٍّ عملي لفرملة الانزلاق. فإذا نجحت الزيارة الاستطلاعية في تثبيت حدٍّ أدنى من التفاهمات الأوليّة، أمكن بناء مسارٍ يضبط "الضغط بالنار" قبل أن يتحوّل إلى واقعٍ مفروض؛ أمّا الفشل، فيعني العودة إلى عضّ الأصابع وتوسيع هامش المخاطرة جنوبًا وداخليًا. وبين هذين الخيارين، تبدو نافذة مصر، الآن، الفرصة الأكثر عقلانية لالتقاط الأنفاس وبناء تفاهماتٍ تدريجية، قبل أن يسبق الحدث أي مفاوضات...
Advertisement
على الأرض، تحرّك السفير المصري في بيروت علاء موسى، فعقد لقاءات متتالية مع الرؤساء الثلاثة، مؤكّدًا على هامشها أنّ بلاده تبذل جهودًا لتهدئة الأوضاع في الأراضي اللبنانية، على وقع التطوّرات والاعتداءات الإسرائيلية. وترافق ذلك مع حديثٍ متزايد عن زيارةٍ "استطلاعية" لمدير المخابرات المصرية اللواء حسن رشاد إلى بيروت، تمهيدًا لوساطةٍ تُعيد تشغيل قنوات خفض التصعيد في مواجهة مؤشّراتٍ على قرب انفلات الميدان.
ويأتي الحراك المصري بعد تراجع الوساطات الدولية، وخصوصًا الأميركية، التي يرى كثيرون أنّها أفرِغت من مضمونها بنتيجة تصريحات توم براك الأخيرة، التي تخلّى فيها صراحةً عن دور "الوسيط"، وانحاز بوضوح إلى أحد الطرفين، كما يأتي أيضًا على وقع التسريبات الإسرائيلية المتصاعدة في الأوساط الإعلامية والسياسية على حدّ سواء عن "حسم قريب" في لبنان، فهل تنجح مصر في المهمّة، وتملأ فراغ الوساطات؟
لماذا مصر الآن؟
هكذا إذًا، لم يعد الحراك المصري على خطّ لبنان خبرًا جانبيًا، إذ تكثّفت خلال الساعات الماضية الإشارات إلى انتقال القاهرة من الاكتفاء بوضعية المراقبة إلى التحرك علنًا وبلا مواربة، وهو ما يدفع كثيرين إلى طرح السؤال المحوري: لماذا تحرّكت القاهرة الآن تحديدًا، وما الدوافع والأهداف الكامنة خلف هذا الحراك المستجدّ؟ وبمعنى آخر، ما الذي تريده القاهرة، وما الذي يمكن أن تقدّمه على هذا المستوى؟
هنا يشير العارفون إلى مجموعة من العوامل التي راكمت الحاجة إلى وسيطٍ إقليمي "ثقيل"، إن صحّ التعبير، من طراز القاهرة، أولها انسداد المسارات الدولية، إذ بدت قنوات الوساطة الغربية، ولا سيما الأميركية، أقل فاعلية في الأيام الأخيرة، بدليل أنّ السردية التي حملتها زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس والإشارات الإسرائيلية المرافقة لها مالت إلى تشديد الشروط ورفع النبرة أكثر من تثبيت وقف نارٍ مستدام، مع تلويحٍ إعلامي-سياسي بأنّ نافذة الخيارات تضيق.
يقود ذلك إلى العامل الثاني، ربطًا بتشابك الميدان مع الرسائل السياسية، فإسرائيل واصلت الضغط بالنار، وتوسيع بنك الأهداف، فيما كانت واشنطن تترك عبر رسائل دبلوماسية تكاد تبرّر الخروقات الإسرائيلية، ولا تقترب من تقديم أيّ ضمانات أمنية أو سياسية لا بدّ منها في هذه المرحلة، وهنا تحديدًا تبرز مصر كوسيطٍ قادرٍ على محاورة تل أبيب وواشنطن ودوائر لبنانيةٍ متعدّدة في آنٍ واحد، وهي ميزةٌ خبرتها القاهرة تاريخيًا.
ولا ينتقص كلّ ذلك من العامل الثالث الذي لا يقلّ شأنًا عن سابقيه، فالرهان المصري اليوم يستند إلى حدّ بعيد، وفق الكثير من القراءات، إلى تجربة، أو "سابقة" غزة، إذ إنّ القاهرة لعبت دورًا محوريًا في مفاوضات غزة إلى جانب قطر، ضمن تنسيق لصيق مع واشنطن. ولعلّ هذا النموذج هو ما تسعى مصر إلى "استنساخه" في لبنان، بشكل منهجي ومدروس، ومع مراعاة أنّ الساحة اللبنانية أكثر تعقيدًا وحساسية في البُنى الداخلية وقواعد الاشتباك، ما يتطلب مقاربة مختلفة.
بين واشنطن وتل أبيب والداخل
أبعد من سؤال "لماذا مصر الآن"، أسئلة كثيرة تُطرَح على هامش الحراك المصري، بينها ما يتعلق بتموضع مختلف الأطراف المعنيّة منه، بما في ذلك الأميركيون والإسرائيليون، فضلاً عن مقاربة الداخل اللبناني، بما يشمل "حزب الله"، لهذه الوساطة، والحدود التي قد تكون متاحة لها، أو ربما "هامش المناورة" المسموح، وكلّ ذلك يقود إلى السؤال الكبير: هل تمتلك هذه المبادرة فعلاً بين طيّاتها فرص النجاح؟
حتى اللحظة، تبدو المهمّة بحسب المعطيات الأولية المتوافرة، استطلاعية ولم تخرج من دائرة "جسّ النبض"، هدفها المُعلَن استكشاف هوامش التهدئة وإعادة فتح قناةٍ تفاوضية تُخفّض المخاطر بالحدّ الأدنى. إلا أنّ ما يميّز هذه الوساطة عن غيرها يكمن في خصوصية القاهرة، وما تمتلكه من أدوات تأثير متشعبة، فضلاً عن أنها وسيط مقبول في الإقليم ولا يُقرأ حضوره كاستفزاز مباشر لأي طرف لبناني مركزي.
هنا، ثمّة من يسأل: أين تقف واشنطن وتل أبيب من "النافذة المصرية"؟ قد يكون من المبكر لأوانه الحصول على إجابة، لكن بالنسبة إلى واشنطن، تفيد "النافذة المصرية" كمسارٍ موازٍ يُخفّض الكلفة من دون أن تُضطر الإدارة إلى تقديم ضماناتٍ مكتوبة لا تستطيع تمريرها الآن. أما إسرائيل، فأجواؤها لا تزال غير ناضجة، وسط انطباع سائد بأنّها توظف التصعيد المحسوب لرفع سقف التفاوض، مع التلويح بأنّ التهدئة في غزة قد تحرر أوراق ضغط في لبنان.
لبنانيًا، تبقى القاعدة الحساسة هي تمرير أيّ مسار عبر الدولة مع تجنّب الشعارات الحدّية. بمعنى آخر، فإنّ لبنانيًا، المطلوب لغة رسمية موحّدة تُقلّص التناقض بين الرسائل السياسية والميدانية، وخطواتٌ محدودة قابلة للقياس: تقليص نقاط الاحتكاك، آليةٌ سريعة لمعالجة الخروق، وضبط الخطاب التحريضي. وثمّة من يرى أنّ نجاح القاهرة هنا مرهونٌ بمدى قدرة القوى اللبنانية على توفير "غطاءٍ كافٍ" لخطوات التبريد من دون كلفةٍ سياسية إضافية داخليًا.
الثابت حتى الآن أنّ القاهرة لا تَعِدُ بحلٍّ سحري، بل بممرٍّ عملي لفرملة الانزلاق. فإذا نجحت الزيارة الاستطلاعية في تثبيت حدٍّ أدنى من التفاهمات الأوليّة، أمكن بناء مسارٍ يضبط "الضغط بالنار" قبل أن يتحوّل إلى واقعٍ مفروض؛ أمّا الفشل، فيعني العودة إلى عضّ الأصابع وتوسيع هامش المخاطرة جنوبًا وداخليًا. وبين هذين الخيارين، تبدو نافذة مصر، الآن، الفرصة الأكثر عقلانية لالتقاط الأنفاس وبناء تفاهماتٍ تدريجية، قبل أن يسبق الحدث أي مفاوضات...











0 تعليق