كانت معظم المقاهي في منطقة وسط البلد بالقاهرة منذ بداية القرن العشرين مسارح فنية للفنانين ولجمهورهم من عشّاق المسرح. وفي وقت الحرب العالمية الأولى ظل الإقبال على المسارح ضعيفا، فكانت المقاهي والمراقص تلقى رواجا كبيرا، حيث الموسيقى والرقص والتهريج.
ومن المقاهي التي شهدت رواجًا في ذلك الوقت مقاهي “بوفيه الكورموجراف وقهوة استراليا وقهوة دينالسكا”، إلى جانب البوديجاء وبيرون، الباقيتين إلى اليوم. على الجانب الآخر هناك مقاهٍ أخرى نالت شهرة واسعة بين رواد وسط البلد، منها:
مسرح حديقة “ريش”
كان لمقهى “ريش” بوسط البلد حديقة واسعة تمتد إلى ميدان طلعت حرب، مفروشة بالرمل الأحمر كما يصفها أحمد محفوظ في كتابه “خبايا القاهرة”، وقد أقيم المقهى، كما يشير مكاوي سعيد في كتابه “مقتنيات وسط البلد” على أرض قصر الأمير محمد علي توفيق. وبعد هدم القصر بنيت البناية القائمة حتى الآن في العام 1908. أما أول من أسس كافيه ريش فهو بيرنارد ستينبرج في 26 أكتوبر عام 1914، ثم باعه لرجل الأعمال الفرنسي هنري بيير الذي عرف بشغفه بالفن والأدب، وهو الذي أطلق عليه هذا الاسم على اسم مقهى بالاسم نفسه في باريس، ولا يزال هذا المقهى موجودا حتى الآن في باريس.
ثم استدعي هنري بيير للخدمة العسكرية في فرنسا فقام ببيع المكان إلى الخواجة اليوناني ميشيل بوليتس الذي امتلك “ريش” بين عامي 1916 وحتى 1932، ثم باعه ليوناني آخر هو “مانولاكس”، الذي قام ببيعه بعد عشر سنوات أي في العام 1942 إلى جورج إيتانوس وسيلي، وهو يوناني أيضًا، وعندما قرر وسيلي مغادرة القاهرة إلى اليونان في العام 1960 مثل أغلب أبناء الجالية اليونانية والجاليات الأجنبية بشكل عام رأى أن يبيعه لعامل نوبي كان يعمل بالمقهى بسعر معقول، لكن الرجل رفض ليس لأنه لا يملك المال المطلوب، بل لأنه استبعد فكرة أن يكون مالكا للمكان، وفي النهاية انتقلت ملكية “ريش” إلى المصري عبد الملك خليل، والذي يدير ورثته المكان حتى اليوم.
وعلى مسرح الحديقة غنى عدد من أساطين الغناء في مصر في بداية القرن الماضي مثل صالح عبدالحي وزكي مراد والشيخ أبو العلا محمد وأم كلثوم حين غنت على مسرح “ريش” الخميس 13 مايو 1932 قبل أن تشتهر وتصبح سيدة للغناء العربي.
مقهى رمسيس أو مقهى الفن
عند ناصية حارة علي الكسار الحالية مع عماد الدين كان مقهى رمسيس ملء السمع والبصر في العقود الأولى من القرن العشرين وكانت مساحته كبيرة، يرتاده الأدباء والفنانون والكومبارس، منهم محمد تيمور والدكتور حسين فوزي وزكي طليمات ومن الفنانين عزيز عيد، روزاليوسف وفاطمة رشدى وأمينة رزق وزينب صدقي وأحمد علام ودولت أبيض، ومن الكتاب الصحفيين محمد التابعي وفكري أباظة ومحمد عبد المجيد حلمي صاحب مجلة المسرح ومحمد علي حماد، كما كان يجلس عليه من شباب أسرة مجلة أبوللو منهم طه حسين، توفيق الحكيم، أحمد زكي أبو شادي، أحمد رامي، وقد أصبح حاليًا محلات لشركة بافاريا لطفايات الحريق.
مقهى بَعرَه
قهوة شعبية شهيرة تتوسط شارع عماد الدين، وكانت ملاذا للكومبارس المغرمين بأضواء السينما، حيث كانت تنتشر مكاتب مديري الإنتاج الفني وصانعي السينما. تأسست قهوة “بَعرَه” (بفتح الباء وتسكين العين)،سنة 1918، على يد سيدة تدعى “ميرا صبرة”، وكانت القهوة آنذاك مكان الجلوس المحبب للجنود الإنجليز. وكدلالة على القوة والنفوذ اللذين كانت تتمتع بهما السيدة ميرا صبرة، أطلق اسمها على أحد الشوارع في منطقة بولاق أبو العلا، حيث كانت تسكن.
وفي بداية الثلاثينيات انتقلت ملكية القهوة إلى الأبناء، فأدارها الحاج محمد الزناتي، الملقب بـ”بَعرَه”، وتحولت إلى ملتقى للفنانين.
مقهى ومسرح "أبيه دي روز"
كان مقهى "أبيه دي روز" يعد في حقيقته مسرحًا لكبار النجوم، ففي شارع الألفي بالدور الأرضي من المكان الذي يشغله حاليا كازينو شهر زاد، كان يقع مقر مقهى اسمه “أبيه دي روز” ولم يكن يختلف عن المقاهي الليلية في شيء، وكان صاحبه أجنبي يدعى “روزاتي” وكان البرنامج الذي يقدمه يحوي نمرا مختلفة بينها مشهد يسمى “خيال الظل” وفيه ترفع الستار عن المسرح خاليا، وفي وسطه ستار أبيض شفاف ويطفأ النور ويمثل من خلفه رجل وفتاة يقومان ببعض الحركات الهزلية الصامتة، وكان يقوم بالدورين شخصان أجنبيان.
اختلف الرجل مع صاحب الملهى وترك العمل، فحل محله استيفان روستي، وأتقن الدور وربط له صاحب المحل مرتبا قدره ستون قرشا، وكان هذا المبلغ يعتبر ثروة ضخمة لاستيفان، خصوصا وعمله على المسرح لا يستغرق أكثر من ربع ساعة كل ليلة.
واستقدم استيفان روستي نجيب الريحاني للعمل معه، ليقوم الريحاني بتأدية دور خادم بربري يظهر في اسكتش خيال الظل، وتقاضى الريحاني عن هذا الدور أجرا يوميا قدره 40 قرشا.