كالعادة، تحمل هاتفك ليلًا وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، لا تخلد إلى النوم دون مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة، أو كما نطلق عليها "reels". إذا كانت خوارزميات هاتفك تأخذك دائمًا إلى متابعة الأخبار عن الأوضاع في لبنان وغزة، ستشاهد مئات المقاطع الحزينة والكارثية التي تعكس حجم الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية على أهالي القطاع وجنوب لبنان. لكن المفاجأة هذه المرة كانت مختلفة.
ظهرت لي مقاطع من قلب المعاناة، تكشف أن هؤلاء المدنيين النازحين، الذين تركوا خلفهم بيوتهم وممتلكاتهم وأحلامهم، وربما فقدوا العشرات من ذويهم، لا يزالون يحلمون، يواجهون صعوبة الحياة بقوة وصمود، يتأقلمون مع واقعهم الجديد، ويبحثون عن الأمل وسط الخراب. من خلال مشاهدتهم وهم يضحكون، أو يتشاركون اللحظات الصغيرة، نجد أن روح الإنسانية لا تنطفئ بسهولة، بل تتجلى في أصغر التفاصيل. هذه الحياة، رغم قسوتها، تُظهر قدرة الإنسان على التكيف، والصمود في وجه التحديات، مما يعكس عمق العلاقات الإنسانية التي تتكون في أوقات الأزمات.
أحمد المجايدة وابنة شقيقته يتحديان الألم
كانت البداية عند حساب أحمد المجايدة، شاب في العشرينات من عمره، يسجل فيديوهات ساخرة وكوميدية من قلب مخيم المواصي بخانيونس، حيث يتواجد مع بعض أفراد أسرته المتبقيين بعد استهداف الاحتلال لمنزلهم في شمال غزة. يظهر أحمد في الفيديوهات بصحبة فتاة لم تتجاوز الثمان أعوام من عمرها، يدعوها "ميسون حبيبة خالو". يتشاركان معًا عشرات الفيديوهات وهما يعدان وصفات بسيطة من المواد الغذائية المتاحة بالخيام، وفيديوهات أخرى يسأل فيها أحمد ميسون عن نشاطاتها اليومية، فتخبره بأنها تقوم ببيع خرز إكسسوار للفتيات لصديقاتها، هذا الخرز الذي لم يعد موجودًا منه في القطاع المنهار سوى العلبة التي تملكها "ميسون".
وفيديوهات أخرى، يتحدث أحمد وميسون عن حبهما لمصر، وأنهم يرونها الأمل لإصلاح الأوضاع.
أحمد، الذي جذب حسابه آلاف المتابعين الباحثين عن بارقة أمل تطمئن قلوبهم على أهالي غزة، قال في حديثه للدستور إن فكرة الفيديوهات كانت دافعها دعم ميسون، التي فقدت والدها في الحرب، قائلًا: "لم يعد لديها في الحياة غيري".
معاناة متكاملة الأركان
في بداية حديثه، لم يستطع المجايدة إنكار المعاناة التي يعيشونها في المخيم، حيث قال: "الحياة في المخيم صعبة للغاية ونحن على أعتاب فصل الشتاء. أغلب الخيام هنا مهترئة لا تقي برد الشتاء ولا حتى حر الصيف".
وصف أحمد حياة المخيم بأنها معاناة متكاملة الأركان في كل جوانب الحياة، حتى في أبسطها مثل استخدام الحمام.
وعن الفيديوهات التي ينشرها، قال: "دائمًا يقال من رحم الألم يولد الأمل. هذه المعاناة كان لزامًا علينا أن نواجهها برسم الابتسامة والضحك والأمل في كل شيء، وتحديدًا مع ابنة أختي ميسون. كل هذا من أجلها لأنها فقدت والدها في هذه الحرب وهي لم تتجاوز الثامنة من عمرها".
المجايدة أشار إلى أن معاناة ميسون ذكرته بطفولته، قائلًا: "أنا أعرف هذه المعاناة وأعرف معنى اليُتم، لأنني فقدت والدي شهيدًا في الحرب على غزة عام 2008. في ذلك الوقت، لم أجد سندًا، ولم يكن هناك من يرسم الابتسامة على وجهي. كان عليّ أن أكون معها في كل حالاتها، في الحزن والفرح. لا أريد لهذا الوجه الجميل أن يذبل مع فقدان الأب".
وأكمل الشاب، الذي كان يعمل في مجال التسويق الإلكتروني قبل الحرب: "رغم معاناة المخيم الشديدة، أعتقد أنه بعد عام من هذه الحياة، يمكن للناس أن يتأقلموا ولو مؤقتًا. تراهم يأكلون ويشربون، وحتى يقيمون أفراحًا ويتزوجون، لأن الحياة تستمر ولا يوجد بديل".
ليس أحمد وابنة شقيقته وحدهما اللذان قررا أن يصمدوا أمام رصاص الاحتلال، فكشف المجايدة أن الكثيرين باتوا يبحثون عن حياة حتى لو كانت "تشبه الحياة"، قائلًا: "هناك من تزوج، وهناك من أنجب أيضًا في هذه الحرب. تعودنا على كل شيء في الخيام؛ الآن الصيدلية أصبحت خيمة، والمستشفى خيمة، وحتى المحلات أصبحت خيامًا. كل شيء في حياتنا الآن عبارة عن خيام".
ميسون: بحب مصر كتير
وعن ميسون، الفتاة الصغيرة التي تتجلى قوتها في مقاطع الفيديو، أكد أحمد أنها مع ذلك لا تزال طفلة، تنسى أحيانًا ما نعيشه، لكنها سرعان ما تصطدم بالواقع المرير. مضيفًا: "الحرب أثرت نفسيًا على جميع الأطفال. ميسون عندما تسمع أصوات القصف والإطلاقات النارية ترتعب من الخوف وتأتي راكضة إلي".
أما ميسون، فكان حديثها لـ"الدستور" يكشف عن طفلة تحولت بفعل الحرب إلى فتاة تمتلك رأيًا وقوة شخصية. قالت ميسون: "قررنا نصور الفيديوهات حتى نفرح الناس ونكسر حزنهم، ونرسم البسمة على وجوههم ووجوه باقي أطفال المخيم. خصوصًا أننا بالخيام نشعر بملل كبير، ونسعى أيضًا لتحويل الألم إلى أمل. نواجه المعاناة بالضحكة والبسمة، لأننا نريد أن نُظهر للعالم أننا ما زلنا هنا، نعيش ونحلم".
وفي نهاية تسجيلها الصوتي، يسألها خالها "ميسون بتحبي مصر؟"، لتجيب الطفلة بعفوية:" بحب مصر كتير.. مصر أم الدنيا".
أحلى وصفات من مخيم خان يونس
أما رنا أحمد، وهي فتاة عشرينية تتواجد في مخيم خان يونس، فتشارك فيديوهات من قلب المخيم تظهر فيها وهي تطهو وصفات لذيذة بكميات كبيرة، موجهةً للأسر المحيطة بها. تهدف رنا من خلال هذه الوصفات إلى جعل أهالي المخيم يشعرون بأن حياتهم لا تزال تحمل بعض اللمحات من الماضي.
فيديوهات رنا جذبت آلاف المشاهدات، حيث قالت للدستور، إنها كانت تملك متجرًا للهدايا في غزة قبل الحرب، لكن تم تدميره. كان لديها شغف بالتغليف وتقديم الأشياء بشكل راقٍ، لذلك قررت استغلال مواهبها في إسعاد الهاربين من نار الاحتلال.
وأضافت: "شفت الناس كل ما بقدم وصفة أو أنسق صحن لي أو أسرتي، يشتهون، فقلت ياريت نعمل شيء لكل المخيم. نحن نفسنا نعد الأكل ونأكل مع أطفالنا. أحلم بأن نجتمع جميعًا، وأن تكون هناك لحظات مليئة بالفرح رغم كل ما نمر به. أريد أن نشارك الطعام والضحكة معًا، لأن الأكل ليس مجرد حاجة، بل هو طريقة لنظهر محبتنا ونرسم البسمة على وجوه من حولنا".
رغم كل ذلك، تشير رنا إلى أن الجميع من حولها يحاولون التأقلم مع الأوضاع، خصوصًا لتخفيف معاناة الأطفال. لكنها أضافت: "برغم محاولات التأقلم، لا نحلم إلا بالعودة إلى بيوتنا. يبقى الحنين إلى الوطن والأمل في العودة هو ما يدفعنا للاستمرار".
عبير الصغير تنشر البهجة بين نازحي الجنوب
وفي لبنان، كانت فيديوهات الشيف اللبنانية عبير الصغيرة الأكثر بعثًا على الأمل من وسط المعاناة. عبير، التي اشتهرت بفيديوهات الطهي الجذابة التي جذبت الملايين حول العالم، حققت نجاحًا ملحوظًا، حيث حصلت على جائزة "Joy Awards" كأكثر شخصية تأثيرًا عام 2022. لكن عبير لم تكتفِ بهذا النجاح، بل قررت أن تحول شغفها إلى عمل إنساني.
أدركت عبير الحاجة الماسة للنازحين من جنوب لبنان إلى بيروت وضواحيها، فتوجهت بكل طاقتها لإعداد وجبات دافئة تعيد لهم بعض الأمل. قامت بإعداد مطبخ كبير، ودعت العديد من المتطوعين للانضمام إلى مطبخها التطوعي. من خلال تعاونهم، بات بإمكانهم إعداد وجبات ساخنة تكفي الآلاف من الأسر المتضررة، حيث تحرص عبير على أن تكون هذه الوجبات شهية ومتكاملة.
تولي عبير اهتمامًا خاصًا بجعل وجباتها جذابة للأطفال، لأنهم هم الأكثر تأثرًا بالظروف القاسية. ويظهر الأطفال في فيديوهاتها، بعيونهم اللامعة وضحكاتهم البريئة، وكأن هذه الوجبات تمثل لهم لحظة السعادة الوحيدة في يومهم. يترقبون بفارغ الصبر اللحظة التي تأتي فيها عبير بوجباتها، وعندما يستلمون الأطباق، يشتعل الفرح في قلوبهم وكأنها احتفالات صغيرة تُعقد في وسط الألم.
ومن بين النازحين اللبنانيين، تواصلت "الدستور" مع سيلفانا زعيتر، وهي سيدة أربعينية مقعدة تعيش في أحد شوارع ضواحي بيروت. رغم الظروف الصعبة التي تمر بها، لم تجد حتى الآن مكانًا يأويها، حيث تفتقر إلى المأوى والموارد الأساسية.
قالت سيلفانا لـ"الدستور": "نزحت من الجنوب منذ أكثر من شهر، وأعيش في الشارع حيث لا أجد أي مكان يأويني. لا أملك المال لاستئجار حتى سرير في بيروت". ومع ذلك، وبالرغم من الألم الذي تعيشه، تجد سيلفانا في نفسها قدرة على العطاء، حيث تحرص يوميًا على المرور بجوار الأطفال المتواجدين في الشارع، وتقوم باقتراح ألعاب تسليهم وتدير دور الحكم بينهم.
وأضافت سيلفانا: "وجدت دفء في مساعدة الأطفال ورسم الضحكة على وجوههم. حتى أنهم يأتون إلي أحيانًا من أماكن الإيواء التي يتواجدون فيها ليقضوا وقتًا ممتعًا. رغم إعاقتي، كان لابد من البحث عن دور لأؤديه لمساعدة بلدي".