الجمعة 01/نوفمبر/2024 - 06:22 م 11/1/2024 6:22:05 PM
حين يقرأ القارئ، أو يستمع المستمع إلى أحد الأشخاص ينطق باسم "فاطمة تعلبة"، يتجه الذهن كلية، ودون تفكير إلى رائعة الكاتب المصري الكبير خيري شلبي "الوتد"، وهي إحدى القصص الأربع (الوتد، المنخل الحرير، العتقي، أيام الخزنة)، وسواء تعارف على هذه الشخصية من خلال قراءة الرواية أو مشاهدة مسلسل "الوتد" التي تدور أحداثها في إحدى قرى الريف المصري (قرية شباس عمير، مركز قلين، كفر الشيخ)، وما تتضمنه من بيوت وغيطان وطرقات ودكاكين، وأماكن للزرع، وأخرى للرعي...، وقد جُسدت الشخصية الرئيسية الريفية الفريدة في "الحاجة فاطمة تعلبة"، والتي كانت تعيش في هذه القرية مع زوجها، أحد أفراد عائلة "العكايشة"، ولديها بنين وبنات، وعددهم سبعة، وكثرة الإنجاب في الريف مكون من مكونات الفكر الأساسي عندهم؛ فهم العزوة والفخر والتباهي)، يمثلون الشخصيات الثانوية (الراوي، درويش، عبد الباقي، الشيخ طلبة، صادق، طاهر، بهية، بسيمة، بهانة، سكينة، سميحة، مريم، زينب، هانم، عزيزة)، وتظهر فاطمة تعلبة في شخصيات متعددة، تنطوي على مظاهر أمومة أكثر من التجسيد الأنثوي، في صرامة طبيعية تقتضيها البيئة والظروف التي تعيش فيها، وتلتزم في بيئتها بالضوابط الأخلاقية، والاجتماعية، وعدم مخالفة النظام العام الذي تفرضه الأعراف والتقاليد، على الرغم من أنها عقلية مختلفة ومتميزة في آن واحد، بداية أنها كانت سببا فاعلا في زيادة مساحات ملكية الأراضي الزراعية لعائلتها، وكذلك زيادة عدد المواشي وكثرتها، ونقلهم إلى حالة اقتصادية عالية، منحتهم هيبة واحتراما بين كبار أهل القرية، ألم تصنع هي بنفسها شخصية ابنها الكبير"الحاج درويش"، وتجعله يتقدم الصفوف، وصاحب كلمة مسموعة داخل محيط الأسرة وخارجها، إلا أنه في الوقت ذاته لا يجرؤ أن يرفع عينيه في أمه "الحاجة فاطمة تعلبة"، ولا يتخذ قرارا إلا بعد مراجعتها، ولأنها تعلم أهمية أن يظل ابنها مهيب الجانب، ما كانت تكسر شوكته أمام أبنائها أو أمام الناس، فكل منهما يستمد قوته وبقاءه من الآخر، وإن كانت هي الجذر الذي تتفرع عنه السيقان والأغصان والأوراق، خاصة في ظل غياب أو تلاشي دور الزوج/ الأب، وإحلال الابن الأكبر محله، دون حدوث أي مشكلات بينهم، وربما هذا هو سبب تسمية الرواية بـ "الوتد"؛ فهي -داخل نطاق الأسرة- الزوجة والأم والحماة والمسؤولة مسؤولية كاملة عن الكبير والصغير، وفي كل شخصية يحالفها النجاح والتوفيق، فهي المفكر والمدبر وصاحبة المشوراة، ولها الكلمة العليا بين أهل القرية، والمنظم للأمور المهمة مثل الانتخابات، وأهل ثقة لكل من حولها، شخصية أصيلة من طين هذه الأرض المصرية التي تضرب بجذورها في أعماق الأعماق، مقرونة بالدين الحاضر في المجال العام والمتجسد في الممارسات الحياتية اليومية كسلوك مقبول متعارف عليه، دون تشدد أو تطرف، فدائما ما يرد في الرواية القيام بأي عمل بعد صلاة الفجر، والنوم مبكرا، بعد صلاة العشاء، وعدم السهر أو التأخر خارج البيت، أو حتى السهر داخل البيت للفجر، وهي المُحافِظة على نسيج الأسرة المصرية وتماسكها وتلاحمها كالجسد الواحد؛ ولذا ظهرت العقدة في التحولات والتغييرات، في أربعينيات القرن الماضي، التي شهدها المجتمع المصري، في الريف المصري (عصر فاطمة تعلبة، وعصر ما بعد فاطمة تعلبة- إن جاز التعبير).
ومن ملامح عصر "فاطمة تعلبة" المحافظة على هذه العائلة وقوانينها، فعندما أراد عبد العزيز أن يكون له مقعد خاص به، انبرت توضح القانون الخاص الذي سنته لهم، وعليهم اتباعه قائلة:
"اسمع يا ولد... من لا تعجبه العيشة... من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطة تعلبة فليرحل هو... فليخرج من الباب بطوله... وحده... حتى بدون ثيابه... حتى بدون ولاده... فأنا الذي ربيت، وأنا الذي زوجت، وأنا الذي أكسو وأطعم... والأولاد أولاد الدار قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم.. ولا أفرط في ظفر واحد منهم، ولا أفرط حتى في ظفرك أنت أيها الشايب العايب... ولكن من أراد أن يفرط في الدار... فخير للدار أن تفرط فيه... إنه يصبح كعود جف ولا بأس من رميه بعيدا عن الحزمة الخضراء... الدار هي دار العكايشة، ولقد تعبت في الإبقاء عليها مفتوحة متكاملة ذات قوة وهيبة... ولست مستعدة للتخلي عنها على آخر الزمن... ولست أطيق أن أسمع مجنونا مثلك يقول هذا الكلام الخائب العبيط... إن قتلك أهون عندي من سماع هذا اللغو...وأحس "عمي عبد العزيز" بالإهانة فحاول التمرد والخلاص من يديها بشيء من الخشونة لم تعهدها من قبل... واخطتفت العصا من عمي درويش تريد أن تشج بها رأس "عمي عبد العزيز" وظلت شهورا لا تكلمه ولا يكلمها...".
ومن اللحظات الفارقة في الرواية، لحظة مرض "الحاجة تعلبة"؛ نتيجة وعكة صحية ألمت بها، وهي السيدة الصلبة التي لا تعرف التعب والشكوى ولا يعرف التعب لها بابا، شعلة النشاط والحيوية، رغم تقدمها في السن، وما كان أحد من أفراد أسرتها يخطر له على بال أن تمرض "الحاجة فاطمة تعلبة"، أيبرك الجمل؟ أينكسر عمود الخيمة؟ "ومهما تقوى الريح مش سهل تكسرها، ما دام عفية وقادرة ع الأيام هتمشي مشوارها"، فلديها قوة شخصية جعلت المحيطين بها يرونها أقوى من الزمن، وأقوى من الظروف، وأقوى من الآثار الطبيعية لتقدم السن والأمراض؛ فهي أول من تصحو، وتوقظ كل من في البيت، وتطلب من كل منهم أن يؤدي ما عليه من أعمال، فجأة يصاب البيت بحالة من الشلل، تتوقف الحركة، الحدث جلل، والحزن يخيم على بيت "الحاجة تعلبة"، الكل في حالة ذهول، ولا أحد مستعد لسماع خبر سيئ، فنهايتها نهاية للجميع، ولما لم يجد درويش أي أمل سافر إلى دسوق ليحضر طبيب شهير اسمه "ألبير فهمي" ولما سأله بعد الكشف قال: "مفيش داعي للغرامة... حنكتب علاج بس ميش فايدة"، فرد عليه، ودموعه تغالبه: "يعني مفيش فايدة"، قال الحكيم: "ربنا يريحها أحسن... خلاص... المسألة مسألة وقت... يعني أيام معدودة"، وفي ظل هذه الحالة التي يصعب وصفها، ويقوم الحاج درويش بالاستعداد والتجهيز لما بعد مرضها؛ فيشتري أثواب الكفن من أجود الأنواع وأغلاها، ويجهز المقبرة، ويجهزها كأنها ضريح لأحد الأولياء الصالحين، فهذا القبر سيضم أمه "الحاجة فاطمة تعلبة"، والزائرون لا ينقطعون عن زيارتها، ولما عاد بعدما اطمأن إلى كل هذه الاستعدادات، ودخل غرفتها، وراح يقلبها، ويحاول محادثتها دون جدوى، دخل غرفته ونام، ولكن النوم طال، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، وشاءت الأقدار أن يرحل قبل رحيل أمه المريضة ثم هي تلحق به، وتنتهي رحلتها مع الحياة، مخلفة وراءها ذكريات لا تنسى سرجها لنا الراوي.
ولا شك أن شخصية "الحاجة فاطمة تعلبة"، شخصية متكررة في الحياة المصرية، وإن اختلفت في بعض الأمور؛ فمصر ولادة، وعبقرية شخصياتها لا تنتهي، ولن تتوقف ما دامت الحياة باقية.