يوسف فاخوري: خيري عبدالجواد احتضن أساطيره وذاب فى اللا منتهى

يوسف فاخوري: خيري عبدالجواد احتضن أساطيره وذاب فى اللا منتهى
يوسف
      فاخوري:
      خيري
      عبدالجواد
      احتضن
      أساطيره
      وذاب
      فى
      اللا
      منتهى

قدم الكاتب يوسف فاخوري، شهادة عن الكاتب الراحل خيري عبد الجواد، خلال فعاليات الدورة الثالثة لملتقى ذاكرة القصة المصرية، والتي تحمل دورة هذا العام للملتقى اسمه.

وفيما يلي نص شهادة فاخوري:

وأنت اليوم صدى فى أصواتنا تحضر فى الغياب شفيفًا كنسمة خريفية. حرًا من ثقل الأشياء ووطأة الوقائع. تطل على نصوصك وترقب حروفك. هنا لا يصير الموت إلا تجل للحياة. بلورة تنعكس عليها حياة أكملت دورتها وحطت فى مدارها.

يوسف فاخوري: خيري عبد الجواد احتضن أساطيره وذاب فى اللامنتهى
 

كنت دائم التحديق فى بلورة الموت وأنت قيد حياة. لا تعتبره مأساة ولا ملهاة. فقط حالة حوار مع المطلق. الآن وقد اتحدت البلورتان امتلكت مطلقك، وقهرت العدم. الآن تذهب إلى توهماتك بأقل من ثقل الفراشة، فقد شفت روحك عبر خيالات الكتابة وامتلأت. الآن تتحد بمجازك الذى طالما سعيت إليه، وبأساطيرك التى بها حلقت.

ابن موت. هكذا يصف من عركوا الحياة فأصبحت رؤى تستبصر الآتى. وابن الموت يحركه خوف داخلى كامن. شىء لا يُرى لكنه ينقر فى النفس، وفى القلب خبىء يحذره من منحنى الأيام حتى لو تجاهل. كأن الكاتب فى خفة الهمزة، قد تحضر على الكلمة، أو تختفى، فيتغير المعنى. كأن تصبح كان. أتمحى الكلمة ؟!

لا أعرف ما علىّ القيام به. أقدم شهادة أم بروفيل لوجهك الذى لم يفارق، وروحك التى تحتضن الجميع. للصمت الدال فى روعة عينيك الواسعتين كامتداد بحر من الحب لايصطدم بصخر. جار إلى أبعد مدى وجارف إلى حد الاستحالة. صمت يثقله المعنى، وروح تشب كأنها تطاول الطيران فى اللامدى. أنقذتنى من نفسى ومن إهمالى. فى حضورك لم أتكلف  جهد نشر قصة من قصصى. ولولا إصرارك لما نشرت مجموعة قصص واحدة، فقد تكفلت بهذا الجهد دون أن تخبرنى إلا والمجموعة كتاب مطبوع فى يدى.

أتذكر حين كنت فى زيارة لأسوان، وأنت تصر على شراء ربابة حقيقية. ورفضت الربابات الزائفة المصنوعة للسائحين. يومها عثرنا بعد جهد على ربابة قديمة، لكنك حملتها بفرح طفولى وكأنك عثرت على كنزك. وأنت الآن هناك إرفع ربابتك بيد وقلبك بالأخرى، فحولك الآن أبطالك الحقيقيون ينشدون سيرهم التى عشقت. فأى فرح يقهر روح العدم أعددته قيد حياة لتقابله فى المنتهى.

ونحن نقع على حروفنا الأولى. أنت وإبراهيم فهمى وأنا وكأننا نكتشف ثروتنا. وهج الكلمات حين تتحقق على الورق، وخوف الصمت أن يبوح بالكلمات، وكل يحاول لغته بحس حداد يطرق بأقصى طاقته قطعة حديد تتوهج ليصل إلى شفرتها. غاص إبراهيم فهمى فى نوستالجيا أرض الأجداد، وسبحت أنت فى بحار المأثور والحكى، وكنت أطل عليكما بدهشتى.
كنت مفتونًا بحس الجمال فى الكلمات. تأخذك الدهشة اتتلاعب بك أم تتلاعب بها.ليس من يقين أو إجابة حقيقية فكلاهما مراوغ، خائف أحدكما من الآخر. والحد الفاصل من يقدر على اقتحام الآخر. من منكما يقدر على خيانة الآخر وانتهاكه كى يتحقق. فإن تحققت الكلمات على الورق أصبحت نصًا. وإن راوغت خفت من لحظتك وانطوت الحروف داخلك لروعة حكى قادم.

يوسف فاخوري: حضور خيري عبد الجواد كان فاعلا

أيا حكاء. أى حكى تحكيه لنا اليوم. أكما كنت تبدأ قصصك "بالصلاة على النبى". كنت تهرب من أوجاع الحياة إلى كتابة الموت عبر الورق. فهل تواصل اللعب من الأبد إلى الوقائع الأرضية. أنت البواح بالحكى أدركت معنى الصمت قبل أن ندركه. تركت لنا طريقًا عليه أن يتفرع إلى عشرات الطرق كى يتسع الحكى على ورق لا يحتمل ثقل الحكايات. كنت خيانتنا المعلنة لأشكال التعبير، وكفرنا المبين بمقدسات الكتابة. كتابة بلا صلاة معلنة. ومن قال إن الصلاة على الملأ ـ صلاة. هذا ما لم يدركه زماننا الشبيه بالزمان ـ لكن دوران الساعة فارغ من الوقت. هذا زمان لم يدرك خبىء الصلاة. الصلاة الخبيئة، أليست هى الخيال إلى أبعد مدى ؟ ورؤاه خرافة كى تحتمل وقائع لا تُحتمل. هكذا عبر هذا الشعب عن وقائعه بالخرافة كى لا ينتحر.هكذا رأيت تراثك كى لا تندثر. ولملمت بقاياك كى تكتمل. هكذا كنت تتحقق واستويت كاتبًا. وكان لك الحضور فى الغياب وشفافية فى الحضور. 
خيرى.. ألا ترى أن غيابك أضاف لنا. فقد جعلنا نرى نذالات لم نرها فى حضورك. ولأننا أحببنا موتنا القادم دون سخرية واكتشفنا رعب حياتنا. أكان صمتك الأبدى مدعاة لإطلاق أصواتنا المحتبسة، واكتشاف معنى الألم كبهجة لانهائية. الرحيل ليس انكفاء إلى اللاشىء، فالذكريات تتجسد أكثر حضورًا من اللحظات الحية فى زمانها. تصير جوهرة أكثر بهاءً فى الزمن. لأن اللحظة إذ تتثبت فى الزمن يصبح لها مدار. لم تكن اللحظة فى آنيتها وسيولتها قادرة على التجسد. قد تركوا المسيح يتعذب فى لحظته، لكنهم لم يدركوا إلا بعد رحيله. هكذا البشر لا يدركون إلا بعد فوات الأوان. لكن فوات الأوان ربما كان لحكمة. ربما هى كذلك. لأن التسامى لا يبدأ إلا ما بعد اللحظات المحسوسة. وحين نفقد المحسوس يتجلى اللا... وهكذا ندرك أن اللا... فى حياتنا أكثر مما نعتقد أنه حقائق.
حضورك كان فاعلًا. لكن تماهيك فى المطلق جعلنا نتوقف قليلًا. نتأمل ونراجع ما بين... ونحن أبناء زمن الما... بين. ليس لدينا يقين. ليس علينا ان نتوسل حقيقة. أبناء شك لا يفصح كأنه قدر. كنت حالمًا وفى عينيك شف الحلم طويلًا. كأن الله وهبك وسع محجرين كى تمتص حقائق حلمك، فاحتضنت أساطيرك وذبت فى اللامنتهى.

تواطأت على الحياة كى تطأها. والحياة تطأ من يطأها وجودًا وعشقًا دون خوف من نهاية الجملة ـ وقد بلغتها. فلك المجد وقد استطعت عراكها، ولنا جوهرة الذكريات فى تجليها، والحلم الباقى الذى حلمت.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق بدء احتفالية اتحاد القبائل العربية والعائلات المصرية بآيات من القرآن الكريم
التالى أوكرانيا وبلغاريا تتفاوضان بشأن اتفاقية أمنية ثنائية