على الرغم من عدم العثور على الجثة الإسرائيلية الأخيرة، وعلى الرغم من غياب الأسقف عن خيام الغزاوية وعدم دخول المساعدات، بدأت المرحلة الثانية من اتفاق غزة تلوح في الأفق.. المعلومات التي تتسرب أو التي يراد لها أن تتسرب، لا تبدو مجرد تفاصيل تقنية في مسار تفاوضي، بل إشارات كثيفة إلى لحظة سياسية شديدة التعقيد، لحظة تختلط فيها الرغبة في النجاة الشخصية لدى القادة، مع محاولات ترميم الهيبة الدولية، مع مأساة شعب يدفع وحده فاتورة كل هذا العبث.
ترامب، العائد إلى البيت الأبيض بروح المقامر لا بروح رجل الدولة، يدرك أن وعده الأكبر بفك الاشتباك الروسي الأوكراني مازال يتعثر، وأن صور المصافحة في كييف أو موسكو لم تأتِ بجديد، وأن الحرب هناك أعند من أن تنصاع، لشعار انتخابي. من هنا يصبح مسرح غزة بديلا مثاليا لصناعة “إنجاز” سريع قابل للتسويق، قليل التكلفة السياسية داخليا، مهما كان ثمنه الإنساني بعيدا عن عدسات الإعلام الأمريكي، إعلان بدء المرحلة الثانية، سواء تسلمت إسرائيل جثة آخر جنودها أم لم تتسلم، رسالة بدء المرحلة الثانية هي رسالة مزدوجة، الأولى هي لإسرائيل تقول بأن واشنطن لن تبقى رهينة لتوقيتاتها، والثانية رسالة للرأي العام الأمريكي بأن الرئيس يتحرك ويفعل ويضغط.
لكن هذا الضغط لا يمارس على الجميع بالقدر نفسه، المرحلة الثانية كما تلوح ملامحها، لا تنطلق من سؤال العدالة أو إنهاء الاحتلال أو حتى وقف الحرب، بل من سؤال الإدارة كيف تدار غزة؟ هنا تظهر فكرة القوات الدولية كغطاء سياسي، كمنطقة عازلة بين الاحتلال المباشر الذي لم يعد مقبولا، والسيادة الفلسطينية التي لا يريدها أحد كاملة.
القوات الدولية المقترحة، مهما تغير اسمها أو تركيبتها، ستولد محملة بالتناقض، فهي من ناحية تقدم كضامن أمني ومنقذ إنساني، ومن ناحية أخرى تؤدي وظيفة ضبط المجال، وإدارة الركام لا إعادة بناء الوطن. الإعلان عن تفاصيلها ليس نهاية الغموض بل بدايته، لأن السؤال الحقيقي لن يكون من يشارك فيها، بل لمن تعمل، ومن يحدد قواعد اشتباكها، ومتى ترحل، إن كانت ستفعل يوما.
وفي خلفية هذا المشهد، تتشكل صفقة سرية مع حماس برعاية تركية قطرية، لا أحد يستطيع أن يقول صراحة إنه يتفاوض مع حماس على مستقبل غزة، الصفقة إن صحت معالمها، ستكون محاولة لتدوير الزوايا لا اعتراف كامل ولا إقصاء كامل، لا نصر معلن ولا هزيمة معلنة.
الدور التركي القطري هنا ليس طارئا، هو امتداد لاستثمار طويل في لعب دور الوسيط الذي يعرف كيف يتحدث مع الجميع دون أن يتحمل وحده تكلفة النتائج، لكن هذه الرعاية لا تعني بالضرورة أن الصفقة ستكون لصالح الفلسطينيين، بل قد تكون فقط لصالح إدارة الأزمة ولتجميد الصراع عند مستوى يسمح بإعادة ترتيب الأوراق، وليس من أولويات هذه الصفقة إعادة الحق لأصحابه.
أما السلطة الفلسطينية، فحضورها في هذا السيناريو يبدو أقرب إلى الدور الشرفي، حضور رمزي لتجميل المشهد، وإضفاء شرعية شكلية على ترتيبات لا تملك أدوات فرضها، استدعاء السلطة بعد كل ما جرى، لا يمكن اعتباره تعبيرا عن إيمان بدورها بل عن حاجة شكلية لها، مجرد واجهة سياسية، وعنوان قانوني، ووسيلة لتخفيف الاعتراضات العربية والدولية، ما يجعل دورها محكوما بسقف منخفض، لا يرتفع إلا بقدر ما يسمح به الآخرون.
في الجهة المقابلة، يقف نتنياهو، المثقل بالملفات، الباحث عن عفو يعيد له أنفاسه، وعن انتخابات تعيد له شرعيته، استدعاؤه إلى أمريكا قبل نهاية الشهر هو جزء من صفقة أوسع كدعم أمريكي في مواجهة أزمته الداخلية مقابل مرونة إسرائيلية محسوبة في المرحلة الثانية، هذه المرونة لا تعني تراجعا استراتيجيا، بل إعادة تموضع، ومحاولة نقل العبء من الجيش الإسرائيلي إلى ترتيبات دولية دون التخلي عن التحكم النهائي في المجال.
الأخطر في المشهد هو محاولة نتنياهو المستميتة تحميل مصر أعباء لا تريدها، وإقحامها في ترتيبات قد تتحول لاحقا إلى فخ سياسي وأمني، لكن مصر التي راهنت منذ البداية على منع التهجير، وعلى بقاء القضية داخل حدودها السياسية والجغرافية، تدرك حجم الخطر.
كل هذه الخطوط تتقاطع في لحظة زمنية ضيقة، أيام قليلة متبقية من عام محتضر، لكنه مثقل بالقرارات، العام القادم كما تشير المعطيات، لن يتشكل في يناير أو فبراير، بل يتحدد الآن، في هذه اللحظات الرمادية، حيث تختلط القرارات المؤجلة بالصفقات العاجلة، وحيث تحاول القوى الكبرى أن تخرج بأقل الخسائر، بينما لا يملك الضعفاء ترف الحساب.
السؤال المركزي الذي تفرضه المرحلة الثانية ليس هل ستتوقف الحرب؟ بل بأي ثمن ولمن؟ هل نتجه إلى تعويم الأزمة، أم إلى إعادة إنتاجها بشكل أقل ضجيجا وأكثر قسوة؟ هل نغرق جميعا في مشهد الخيام، حيث يتحول الإنسان إلى رقم، والألم إلى صورة عابرة، أم نطفو مؤقتا بعد أن نتخلص من بعض التداعيات الكارثية لمغامرة الطوفان، دون أن نجرؤ على مساءلة أسبابها العميقة.
المؤكد هو أن الطوفان قد فتح الباب أمام مغامرات مضادة، حيث يتم استثمار الدم في رسم خرائط جديدة، وتوظيف الألم في صفقات مؤجلة، المرحلة الثانية بهذا المعنى، ليست مرحلة سلام، بل مرحلة إعادة توزيع أدوار، وإعادة تعريف وظائف وإعادة ضبط حدود.
ما نفهمه من هذه المعلومات أن العالم لا يتحرك بدافع إنهاء المأساة، بل بدافع الخوف من انفلاتها، وأن ترامب لا يبحث عن حل عادل، بل عن صورة إنجاز، وأن إسرائيل لا تتراجع، بل تعيد التموضع، وأن حماس تفاوض لتبقى، لا لتنتصر. وأن السلطة تستدعى لتوقع، ومصر كعادتها مستيقظة وهى تقف على خط التماس بين السياسة والجغرافيا، بين التعاطف والابتزاز.
المرحلة الثانية ليست وعدا بالخلاص، إنها اختبار للوعي، إما أن نقرأها كما هي بكل تناقضاتها، ونحاول تقليل خسائرها، أو نبتلعها كشعار جديد، ونستيقظ لاحقا على واقع أشد قسوة، ما بين الغرق والطفو، مسافة ضيقة، لكنها تتسع أو تضيق بقدر ما نملك من شجاعة في النظر ومن حكمة في القرار.










0 تعليق