نزلة بركات.. لا يعرف أهلها - على وجه اليقين من هو «بركات» صاحب «النَّزْلة»، لكن فى صدورهم حكايات تتعلق بالرَّجُل، ومن كبارهم «عبداللطيف الكِبَاشى»، «وَلْد الليل» الذى كبُر فصار حكيمًا مصقولًا بالتجارب، وهو الذى كان فى شبابه يحمل لقب «الشيخ عبداللطيف»، ولم يكن سوى «شيخ مَنسَر» له سطوة على القرى والنجوع فى «طهطا » و«طِمَا»، وله «شيوخ مَناسِر» يحبونه ويحبهم فى «الغنايم» و«أبوتيج» و«صِدْفا» و«جهينة»، وهو من «آل الكباشى»، العُرْبان البواسِل، ملوك الحرب والخيول عِشْقهم والسّلاح تجارتهم، وتخشى «الحكومة» بأسَهم، وهو حافظ التواريخ والحكايات، جرىء العبارة، قوى اللفظ، يحرق دم خصمه بكلمة، ويقتل لو استلزم الأمر، بأيدى أعوانٍ لا يعصونه ما أمرهم، وله من الأولاد عشرة، من زوجتين، الأولى تنتمى إلى «آل تَغْيَان»- أهل الحكم فى «نزلة بركات» - والثانية من «آل رضوان» وهم من أعيان طهطا، وهو الذى استقرت أموره فى «المندرة الكبيرة» فى بيت جدّه «نعمان الكِباشى»، وفى المندرة معاشه ومجلسه ومنامه وهو مخدوم من أولاده وأحفاده، ينعقد مجلسه من بعد صلاة العشاء، إلى «الفجر»، ما لم يكن قد خرج لقضاء مصلحة أو لأداء واجب عزاء، ولما بلَغتُ مَبْلَغ الشباب، قبلنى فى مجلسه ضمن مجموعة شُبّان، منهم أحفاده وأقاربه، وما قبلنى إلا وفاءً لصداقة جمعته بالمرحوم جَدّى «منازع فوّاز» رفيقه فى «المَنسْر»، وشريكه فى الغزوات والغارات فى زمن الأربعينيات، وفى ليلة والمجلس عامِرٌ، والصفاء غامرٌ وجه «الكباشى» سألته:
قل لى يا جدّ عبداللطيف.. البلد دى «نزلة بركات» أصلها إيه وفصلها إيه؟
فابتسم وقال:
- أنا نقول لك.. «نزلة بركات» دى أرض طاهرة، سكنها «الأوليا»، أربعة وأربعين وليًا، كانوا عايشين فى «خِلْوة» فى «النزلة» دى، اللى هيّ جنب «جامع الشحايتة» اللى فى «نجع القِرْد»، نجعكم.. وأول واحد حَطّ عزاله وسَكَن بعياله فى «النزلة»، واحد مغربى اسمه «بركات».. بركات مين.. الله أعلم، بسّ هُوّه كان تاجر، وقارِى فى الدين والكتب وأنا سمعت إنه كان «متحجّب»، يعنى عامِل حجاب، وقارى عليه واحد من ملوك الجِنّ، وطول ما مْعَاه الحجاب ده، لا تموّته «بُندقة» ولا يجرحه «خنجر» ولا سيف أبدًا، وكمان كان فيه «عِرْق الصّبا».. إيه هُوّه عِرْق الصّبا؟.. يعنى قدر يوقّف القطر بدراعه، ويشيل «أردب الغلّة» بصابعين..
- طيّب يا جدّ.. « عِرْق الصّبا» جَاَله منين؟
- أْسْمَع يا ولدى.. أنا الحكاية دى حكاها ليّه المقدّس «ميخاييل» النُّصرانى «الصَّراف» بتاع «طهطا» كلها، قال لى، البَحَر الكبير، ليه ساعة ينام فيها، فى السنة مرّة، واللى يشرب منه فى الساعة دِى، على طول يلاقى روحَه عنده «عِرْق الصَّبا»، ياكل كتير، وينام ساعة ولا ساعتين فى «الجمعة» وتبقى عنده قوة وشدّة أكتر من عَشَر رجّالة..، «بركات المَغْربى»، جات له «رؤيا» فى المنام، جاله هاتف من «فرعون» بتاع «البرّ المصرى» كلّه، عطاه أمر، إنّه يركب ركوبته ويطلع من «فاس ومكناس» على «مصر» ويجى يقعد فى «النزلة» دى.. «النزلة» دى كفِريّة».. يعنى إيه كفِريّة؟،.. من أيام «الأروام» و«سيدنا موسى» وكانت الناس القدام تسمع كركبة الحروب طول الليل، خيل وعساكر وحروبات، وصراخ، ويَصْحوا فى الصبح مايلاقوش ولا حاجة..، وكمان فى «النزلة» دى لِقيّة على أشكال وأنواع، فيه «عجل بَقَر» يطلع فى الليل، قدام «جامع الشَّحَايتة»، ينعّر ويبرطع، لو إنت من الموعودين وضربته بطوبة تتفتح لك كنوز الدنيا، أنا نسمع من وأنا عَيّل إن «بركات» طلع له «عِجْل الجامع»، بس مقدرش يميّل على الأرض ويمسك طوبة، عشان دراعه اتشلّ.. ف دقيقة، كان دراعه وقف، وراح العجل نزل فى «البير» بتاعة الساقية، وفى لِقيّة فى بيت جدّى «نعمان»، اللى احنا قاعدين فيه ده، «ديك أَحَمَر» يطلع مع «الفجر، وزيّه زىّ عِجل الجامع؛ ولحدّ النهارده قاعدة اللقيّة فى بطن الأرض، عشان صاحبها الموعود بيها، الدنيا دى يا ولدى للموعودين مِش للحسَّابين..، أرزاق موعودة بيها ناس من الأَزَل، مِش تقعُد تحسب لى بالورقة والقلم وتعمل روحك مفتَّح.. قالوها الكبار زمان «الرزق للموعودين والهَمّ للحسَّابين».
- طيب بركات المغربى ده ليه قرايب ولا عيلة باقية منه فى النزلة؟
- أبدًا، جدودنا العُربَان، نزلوا من «بَرْقة»، وكان معاهم خيل وجمال وسلاح وحطّوا فى «النزلة» و«بركات» ده انتهى، وماقاعدش منه غير «المقام» بَسّ..
أمّا «حَسّان البعوكى»، وهو أيضًا من حفَظَة التواريخ، وتعلّم فى كتّاب «الشيخ نفادِى» وعمل فى التجارة، وطاف «الصعيد» كلّه، ومن المتكلّمين والمحدّثين فى «نزلة بركات» فقد رَوَى فى جلسة جمعتنى به فى ليلة زفاف حفيده «شافعى» رواية عن أبيه، عن جدّه، عن أمّه «هَاجَر»، عن جدّتها التى قال عنها إنها عاشت مائة وعشرين سنة، حتى برزت فى فمها «الأسنان الخضرا»، وتضمَّنت روايته أن «بركات» هذا، هو واحد من نسل «أبوزيد الهلالى» تسمّى باسمه، وأسماء «أبوزيد» معروفة «بركات، سلامة، الحاج مسعود» وضاق به الحال فى «تونس»، فهجر من تبقّى من «بنى هِلال»، وجاء إلى «مصر» وقابله «الوالى» - حاكم جِرْجَا وأعطاه أرض «النزلة» لتكون مرعَى لغنَمه وجِماله ومسكنًا له ولعياله من بعده وأعطاه حُجّة بها، وكان «بركات الهلال» درس فى «جامع القيروان» وتمذهب فى الدين بالمذهب «المالكى» وكان ذا مالٍ، ينفق منه على الفقير والمحتاج والأرملة وهو الذى بنى مقامات أولياء الله «الشيخ شحاتة، الشيخ فِرْجانى، الشيخ منصور، الشيخ عرابى»، وكان مع «الأشراف» فى كل حروبهم ضد عدوّهم، لأن «أبوزيد الهلالى» جدّه، هو ابن «خضرة بنت قُرضَة الشريف»، وقال «حَسّان البعوكى» إن شيخَه «نفادى هريدى» حكى له حكاية مصدرها كتاب قرأه فى مكتبة شيخه «همام الدشّناوى» الذى علّمه التجويد والقراءات العَشْر، تقول حوادثها إن «بركات الهلالى»، كان قائد الأشراف الذين حاربوا «الفرنساوى»، وكان «الدراويش» والعُربان هم الجنود فى تلك الحرب، وإن النجوع التى تتكون منها قرية «نزلة بركات» وهى «نجع الخولى، نجع العُرْج، نجع الغازيّة، نجع القرد» كانت «كراديس» - أى معسكرات حربية – يتجمع فيها الأشراف والدراويش، يجهّزون سلاحهم وطعامهم، ويغيرون على سُفن الفرنساوى الراسية فى «بحر النيل»، وكان أولياء الله الصالحون معهم فى تلك الحرب، يمدّونهم بالمدَد، وكثيرة هى الكرامات والمعجزات التى وقعت على أيدى أهل «الإسلام» ضد «الكفار» الفرنسيين، وتسمية «نجع الخولى» أصلها وظيفة «الخُولى» وهو المُكلَّف بحشد الرجال للحرب، وقضاء المصالح من حَفر خنادق وتجهيز حِرابٍ وعصىٍّ، وذلك «الخولى» كان مع «مراد بك» «المملوكى»، وترك شغله وانضم إلى جيش «بركات الهلالى» أو بركات المغربى.
وختم «حسّان البُعوكى» روايته بحديث عن موت «بركات الهلالى» فقال إن الفرنساوى قبض على كثير من رجال بركات فأرشد أحدهم عنه، فوجدوه فى نجع «الغازيّة» مختبئًا فى «صومعة غلّة»، وذبح جنود «الفرنساوى» الغازيّة، وألقوا جثتها على «مزبلة» فأكلت الكلاب لحمها، و«بركات» أُحرِق حَيًّا، أشعلوا- الفرنساوية - النار فى جسده على مرأى ومسمع من أهالى «النزلة»، وعاد «حَسّان البعوكى» وروى رواية أخرى بشأن موت «بركات»:
- إنت عارف نجع الغازيّة ده ملعون من يومه، وحريمه مفضوحة ليه؟ عشان «الغازيّة»، دى كانت هى اللى موالسه مع العسكر الفرنساوى، وهى اللى سلّمت «بركات» بعد ما هَرب منهم، قالت له ادخل جٌوّة «الصوُمعَة» وهوّه من عَبَطه راح داخل، وراحت مبلغة الدِّيِش الفرنساوى، راحوا ماسكينه وحرقوه بالنار وهوّه حىّ، يعنى هوّه ميّت «شهيد»، عشان هوّه مسلم وهمّه «كُفار»، وكان «الولى» محزّمه وعاطيه الإذن إنه يحارب «الكُفّار»، عشان كده هوّه قبل ما يموت دَعَا عَ الغازيّة دعوة قالها روُحى.. يجعلك ربنا إنتى وذريّتك مفضوحة قدام الخلق كلها.. ودعوته ربنا استجابها ومن يومها نجع الغازية ده نجع ملعون، حريمه «قحبة»، وماليهش كبير، وكله طبيخ فى بعضه، الراجل ده ينُط على مَرْت الراجل ده، وأغلب اللى فى النجع الملعون ده، ماتعرِفش مين أبوه الأصلى، يعنى مين أبو مين.. ماحدّش يعرف، و«الغازية» دى، كانت تقبض فلوس من «الفرنساوى»، وماشية معاهم فى «الزّنا» استغفر الله العظيم.
وحيَّرتنى حكاية «حَسَّان البُعوكى»، ولَعْنَه جماعة «نجع الغازيّة»، فهو من أصحاب السّير البطال، والذَّيول النجِسَّة، واللقب السرّى الذى يطلقه الناس عليه «حَسَّان البُعوكِى» حرامى «اللحّم»، وكلمة «بعُوكى»، لها معنى يؤدّى إلى معنى «القوَّاد»، وتاريخه فى إفساد العلاقات بين الناس لا يخفى على من عايشوه فى زمن قوّته، وهو الذى أشعلَ الفتنة بين إخوته لأبيه، وهو الذى كان السبب أو المسئول عن مقتل العمدة «عبدالجبار تَغْيان»!
فصل من رواية «عرق الصبا»
التى تصدر قريبًا عن دار الأدهم.















0 تعليق