في تحرك غير مسبوق، يُعد الأضخم في تاريخ الرقابة على سوق الدواء المصري خلال السنوات الأخيرة، أطلقت هيئة الدواء المصرية مبادرة قومية شاملة لسحب الأدوية منتهية الصلاحية من التداول والتخلص منها بطرق آمنة تتوافق مع أرقى المعايير البيئية والصحية.
رؤية استراتيجية لتأمين سلاسل إمداد الدواء
لم تكن هذه الخطوة مجرد حملة عابرة، بل نتاج رؤية استراتيجية لتأمين سلاسل إمداد الدواء، وحماية صحة المواطنين، والحفاظ على السمعة الإقليمية والدولية للصناعة الدوائية المصرية.
وتأتي المبادرة في ظل إدراك كامل لخطورة وجود المستحضرات المنتهية الصلاحية، التي لا تشكل تهديدًا لمنظومة العلاج فحسب، بل تُغري بظهور ممارسات غير شرعية كإعادة التدوير أو التزوير أو التهريب، مما يضر بالثقة في المنتج المصري.
واستُهلت المبادرة بمرحلة حاسمة من التسجيل والحصر الإلكتروني الشامل للمخزون التالف داخل الصيدليات في مختلف المحافظات.
كشفت هذه المرحلة عن تسجيل عشرات الملايين من الوحدات الدوائية منتهية الصلاحية عبر منظومة إلكترونية موحدة، وهو ما يؤكد حجم التحدي وضرورة هذا التحرك الرقابي الجذري.
إنجازات بالأرقام
وبحسب بيانات هيئة الدواء المصرية، فقد أظهرت الأرقام الرسمية أن المرحلة الأولى من المبادرة شملت مسحًا لنحو ٧٢٪ من إجمالى المؤسسات الصيدلية على مستوى الجمهورية، بينما سجلت نسبة ٦٢.٥٪ من الصيدليات بياناتها إلكترونيًا، وهو رقم يعكس تجاوبًا كبيرًا مع المبادرة رغم الفترة الزمنية القصيرة التى خُصصت للتسجيل.
كما أظهرت النتائج رصد ما يقرب من سبعة عشر مليونًا وثمانمائة ألف وحدة دوائية غير صالحة للاستخدام، وهى كمية ضخمة إذا ما تخيلنا أنها كانت قابلة للتداول أو البيع بطرق غير شرعية.
فى الجهة المقابلة؛ سجلت حوالى ١٥.٥٪ من الصيدليات أنه لا يوجد لديها أى دواء منتهى الصلاحية، وهو ما اعتبره خبراء القطاع مؤشرًا إيجابيًا على وجود شريحة واعية من الصيدليات تهتم بمراجعة مخزونها أولاً بأول.
لم تتوقف المبادرة عند حدود الحصر الإلكتروني، بل انتقلت بعد موعد ٣٠ يوليو إلى المرحلة الأكثر حساسية وهى السحب الفعلى للمنتجات من السوق، وتقرر أن تستمر عملية السحب مدة ثلاثين يومًا تُخصص للفرز، ثم ثلاثة أشهر تالية يتم خلالها استلام الأدوية من الصيدليات عبر شركات التوزيع ونقلها إلى أماكن الإعدام المجهزة، على أن تحصل الصيدليات على التعويضات المستحقة خلال فترة لا تتجاوز شهرًا من تاريخ الاستلام.
كانت هذه النقطة تحديدًا واحدة من أهم عوامل نجاح المبادرة، إذ أكدت الدولة أن الصيدلى لن يتحمل أى خسائر مالية نتيجة التخلص من المخزون المنتهي، بل سيحصل على مستحقاته حتى لو لم تكن لديه فواتير شراء، وهو ما يعد سابقة لم تحدث من قبل على هذا المستوى.
مشاركة فعالة فى مختلف المحافظات
وشهدت محافظات الجمهورية تفاوتًا فى نسب التسجيل والمشاركة، إلا أن اللافت أن بعض المحافظات الحدودية والنائية كانت فى مقدمة المشهد. فقد سجلت محافظة الوادى الجديد نسبة مشاركة بلغت ١٠٠٪.
بينما اقتربت محافظات مثل السويس ومطروح والأقصر من النسبة ذاتها، تلتها محافظات دمياط والإسماعيلية والمنيا وبنى سويف وسوهاج والمنوفية والشرقية والإسكندرية.
وتدل هذه الأرقام على أن المبادرة لم تكن مركزية أو مقتصرة على المدن الكبرى، بل وصلت إلى كل نقطة تحتوى على صيدلية داخل الجمهورية، فى تأكيد واضح على أن الدولة تتعامل مع صحة المواطن على قاعدة واحدة لا تفرّق بين محافظة وأخرى.
ومع بداية مرحلة السحب، بدأت شركات التوزيع فى تلقى المنتجات المسجلة، ونقلها إلى أماكن الإعدام الصحى بإشراف هيئة الدواء، وذلك وفق اشتراطات ومعايير تضمن التخلص الآمن الذى يمنع تسرب أى مستحضر دوائى إلى البيئة أو إعادة استخدام العبوات أو تهريبها. وفى الوقت ذاته، تم منح الصيدليات خدمة إلكترونية لمتابعة موقف منتجاتها لحظة بلحظة، بما يمنح العملية شفافية كاملة ويغلق الباب أمام أى شكوك أو اتهامات بالتعطّل أو التأخير.
ورغم ضخامة ما تحقق، فإن الأمر الأبرز هو ما كشفته المبادرة من حجم مشكلة كانت كامنة على مدى سنوات طويلة، فقد اتضح أن عدداً كبيراً من الصيدليات يحتفظ داخل مخازنه بكميات من الأدوية التى انتهت صلاحيتها منذ فترات متفاوتة، وأن عدم وجود آلية إلزامية مسبقة لسحب المرتجعات ساعد على تراكم الكميات، وخلق أزمات بين الصيدلى وشركات الأدوية التى كانت فى بعض الأحيان تتباطأ فى استلام منتجاتها.





0 تعليق