في كل عام، تعود ذكرى رحيل الشهيد ياسر عرفات لتعيد مشهد الزعيم الذي جمع بين صلابة الثائر ورهافة الإنسان، لكن وراء الصورة التي حفظها التاريخ، تختبئ دهاليز لم تُفتح بعد، تكشف وجهًا آخر لـ"أبو عمار"، وجهًا مصريّ الملامح والعاطفة، عاشقًا لتراب القاهرة كما لفلسطين التي نذر لها عمره.. وفي ذكرى رحيله، تكشف الذاكرة العربية عن دهاليز لم تصل يومًا إلى صفحات الإعلام، لكنها سكنت وجدان من عرفوه عن قرب.
وفي زمنٍ كانت فيه العواصف السياسية تمزق الخريطة العربية، ظلّ ياسر عرفات هو الصوت الوحيد الذي يربط بين ضفّتين: فلسطين التي تنزف، ومصر التي كانت دائمًا الحضن الدافئ في زمن التيه.
لم يكن مجرد زعيم، بل حالة وجدانية عابرة للحدود، حمل في قلبه مصر كما حمل فلسطين في راحته، كان يقول دومًا: "من القاهرة تعلمت أن لا أُفرّق بين دم عربي وآخر".
وفي ذاكرة القاهرة، لم يكن أبو عمار مجرد زعيمٍ فلسطيني، بل كان ابنًا من أبنائها، خرج من بين شوارعها يحمل كوفيته وكرامتها معًا.
قبل أن يعرف العالم اسم "أبو عمار"، كان شابًا يافعا يدرس الهندسة في جامعة فؤاد الأول (القاهرة).. خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، خرج مع الطلاب المصريين يهتف في شارع قصر العيني: "مصر وفلسطين.. نصر واحد ودرب واحد!"
واعتُقل مع مجموعة من زملائه لبضع ساعات في قسم عابدين، قبل أن يأمر ضابط مصري بإطلاق سراحه وهو يقول: "سيبوا الشاب.. دا بيهتف لمصر كأنه منها."
ولم يُذكر هذا الموقف في أي سيرة رسمية، لكنه ظلّ نقطة التحوّل التي شكّلت وعيه العروبي ومن القاهرة بدأت حكاية ياسر عرفات مع النضال، وانطلقت منها شرارة الوعي الأول
وحين زار الرئيس الراحل السادات القدس عام 1977، انقسمت الساحة العربية، وهاجمت فصائل كثيرة القاهرة بعنف، لكن في اجتماع مغلق داخل مقرّ حركة فتح ببيروت، فاجأ عرفات الحضور قائلًا: "مصر أمنا.. نختلف مع السياسة لكن لا نهاجم مصر. اللي يهاجمها كأنه بيهاجم أمه."
سُجّل الموقف في محضر داخلي للحركة ولم يُنشر وقتها احترامًا لحساسية الموقف، لكنه بقي شاهدًا على وفاء الرجل لمصر حتى في عزّ الخلافات السياسية.
وبعد اتفاقية كامب ديفيد وقطع العلاقات رسميًا، احتفظ عرفات بخط اتصال سري مع مسؤول مصري سابق في المخابرات العامة، أطلق عليه اسمًا رمزيًا في مراسلاته: "الأخ نيل"، ومن خلال هذا الخط كانت تُنقل تحذيرات مصرية للمنظمة حول تحركات إسرائيلية في لبنان، والمراسلات لم تُكشف إلا بعد ٢٠٠٤ ضمن وثائق داخلية لحركة فتح، وأكّدت أن العلاقة بين عرفات ومصر لم تنقطع يومًا، مهما تغيّرت الظروف.
وفي خلال حصار بيروت ١٩٨٢، وصل ضابط مصري سابق ضمن بعثة الهلال الأحمر لنقل الجرحى.. طلب عرفات لقاءه رغم القصف، وقال له وهو يبتسم بتعب، "قول لمصر ابنها مش ناسيها، حتى لو البحر بينا نار"، ولم يُعلن اللقاء وقتها، حرصًا على حياد البعثة المصرية، لكنه بقي شاهدًا على عمق العلاقة الإنسانية التي لم تُطفئها الحروب.
وتتساءل الأجيال الحالية عن مغزي “رسالة الطين” من غزة إلى القاهرة (1994)، فبعد عودته إلى غزة عقب اتفاق أوسلو، بعث عرفات إلى القاهرة وعاءً فخاريًا صغيرًا من تراب غزة، ومعه رسالة بخط يده تقول، “من تراب فلسطين إلى تراب مصر، بينهما لا حدود بل دم واحد"، واحتفظت وزارة الخارجية المصرية بالهدية في الأرشيف، ولم تُعلن للرأي العام. وكانت بمثابة رسالة امتنان رمزية من رجلٍ يعرف قيمة الأم التي لم تتخلّ عن أبنائها يومًا.
وخلال زيارة قصيرة إلى مصر قبيل اندلاع انتفاضة الأقصى عام ٢٠٠٠، وقف عرفات على ضفة النيل وقال لأحد مرافقيه، "أنا عشت بين نيلين.. نيل مصر اللي ربّاني، والقدس اللي شريان حياة زى النيل".. تلك كلمات لم تُسجل إعلاميًا، لكنها وردت في مذكرات غير منشورة لأحد حراسه الشخصيين. وكانت تلك لحظة تأمل صادقة لرجلٍ عاش عمره بين نهرين من العروبة والحنين.
وخلال قمة عربية مصغرة في القاهرة عام 1989، حاول عرفات التوسط بين العراق وسوريا لوقف القطيعة، ما لم يُعلن أن القاهرة سمحت له باستخدام مكتب جانبي داخل مقر رئاسة الوزراء لعقد لقاء سري بين مبعوثين من البلدين.
واللقاء لم ينجح، لكنه كشف ثقة الدولة المصرية في عرفات كـ“ضامن عربي”، رغم أن ملف المصالحة لم يكن رسميًا في يده، وحينئذ وصفه مسؤول مصري قائلًا: "أبو عمار مش وسيط… دا ابن بيتنا، بيحاول يصلّح ما بين إخواته".
وعام 1995، بعد عودته إلى غزة، كان عرفات يحتفظ على مكتبه بمصحفٍ صغير أهدي إليه من الأزهر الشريف أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، وإلى جواره علم مصر صغير موضوع في قاعدة نحاسية. وكان يقول لمرافقيه: "ده مش ديكور.. ده عهد"، وكان ممنوعًا تصويره رسميًا لأن عرفات أراد أن يحتفظ به “بعيدًا عن التفسير السياسي".
ولعلنا نغوص أكثر في النداء المجهول خلال الانتفاضة الثانية عام 2001، حيث سجّل أحد ضباط الارتباط المصريين اتصالًا لاسلكيًا من المقاطعة في رام الله بصوت عرفات، يقول فيه: "بلغوا القاهرة.. القدس بتستصرخكم، وأنا ثابت".. الاتصال كان غير رسمي، ولم يُدرج في سجلات الاتصالات الدبلوماسية، لكنه حفظ في أرشيف شخصي لدى ضابط مصري متقاعد.
وما في خلال علاجه في باريس عام ٢٠٠٤، عيّن المستشفى طبيبًا مصريًا ضمن الفريق الطبي.. في إحدى الليالي، قال له عرفات بصوت خافت جدًا: "لو حصل لي حاجة، قول لمصر إن ياسر عرفات مات وهو بيحبها"، ونقل الطبيب نفسه الشهادة بعد وفاته بعامين في لقاء خاص داخل الجالية الفلسطينية بفرنسا.
وفي أيامه الأخيرة قبل نقله من المقاطعة في رام الله إلى باريس، طلب من أحد مرافقيه أن يمرّ على ضريح جمال عبد الناصر في القاهرة إذا عاد بجثمانه.. قال بالحرف: "لما أوصل مصر، سلّموا على ناصر.. قولوا له: ما زال الحلم واقف ما ماتش."
الوصية لم تُنفّذ كما أراد، لكنها تظل آخر جملة تربط بين زعيمين جمعهما الحلم القومي نفسه، ناصر وأبو عمار، وبقيت الكلمات كجسرٍ رمزي بين زعيمين جمعهما حلم واحد، لكن بقيت الكرامة العربية، والوحدة التي لا تنكسر.
وفي نهاية الستينات، كان عرفات يزور القاهرة متخفيًا أحيانًا لتجنب رصد الموساد، وأثناء إحدى الزيارات، أصرّ على أداء صلاة الجمعة في جامع الحسين، دون حراسة واضحة.
وبعد الصلاة، جلس في مقهى قريب مع مجموعة شباب مصريين وتحدث عن النضال وكأنهم لا يعرفونه، ثم دفع الحساب بنفسه وغادر دون أن يفصح عن هويته، أحد الحاضرين وكان صحفيًا شابًا آنذاك قال لاحقًا، “كان واضحًا أنه مش عادي.. فيه كاريزما بتسبق كلامه" وكان عرفات يحب أن يختلط بالمواطنين بدون أضواء، ويقول دائمًا: “الزعيم لازم يشوف الدنيا من عين الناس مش من عين البروتوكول".
فلم يكن ياسر عرفات مجرد قائد فلسطيني، بل ابنًا صادقًا لمصر، تربى في شوارعها، ونهل من وعيها، وحمل رسالتها إلى كل ساحة نضال.
من القاهرة بدأت رحلته، وإليها ظل قلبه يعود كلما ضاق الحصار، وفي دهاليز التاريخ ستبقى صورته شاهدة على زمنٍ كانت فيه مصر وفلسطين وجهين لعروبةٍ واحدة، لا تفرّق بين الدم والدمع.













0 تعليق