في عمق الشتاء، صيف. (8)

البوابة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كانت تلك اللحظة أشبه بوميض برق في ليلٍ طويل، لم يكن قرارها بالرحيل نابعًا من غضبٍ عابر، بل من إدراكٍ حقيقي بأن ما كانت تتمسك به لم يكن حبًا، بل قيدًا مذهبًا يخنق روحها كل يوم أكثر. 

رأت الحقيقة أخيرًا، مجردة من الزخارف، قاسية لكنها صادقة. أدركت أن الشفاء يبدأ حين نكفّ عن تزيين الألم بأسماء الحب.

في تلك اللحظة، شعرت وكأنها تستعيد أنفاسها للمرة الأولى منذ أعوام. كانت خطواتها المرتعشة على طريق الانفصال تشبه السير فوق رماد الذكريات، لكنها كانت تسير رغم الوجع. لم تعد تبحث عن تفسير لسلوكه، ولا عن تبرير لخذلانٍ متكرر.

كانت فقط تريد أن تنجو، أن تجد طريقها إلى ذاتها التي تاهت في الزحام. وكما تقول شارون مارتن في كتابها «The CBT Workbook for Perfectionism»: النجاة ليست نهاية، بل بداية حياة جديدة.

لم يكن الشفاء حدثًا لحظيًا، بل رحلة متعرجة بين الفقد والرجاء، بين التراجع والنهضة. استعانت بمختصين، تحدثت بصدق للمرة الأولى عن خوفها، عن هشاشتها، عن انكسارها. وجدت في العلاج النفسي مرآة مختلفة، لا تعكس ضعفها بل إنسانيتها. 

صارت تتعلم أن الألم لا يُشفى بالإنكار، وأن الاعتراف بالوجع ليس ضعفًا بل شجاعة. كما تقول «Brené Brown» في كتابها «The Gifts of Imperfection»: التعافي يبدأ حين نسمح لأنفسنا بأن نكون ناقصين، حين نتوقف عن محاربة هشاشتنا ونراها جزءًا من قوتنا.

كل جلسة كانت أشبه برحلة غوص في أعماقها، تستخرج فيها ما دفنته تحت طبقات الصمت. بدأت تفهم أن النرجسي لم يسلبها نفسها، بل جعلها تنساها، وأن استعادتها ليست حربًا ضده، بل عودة نحو جوهرها الأصيل. لم تعد تبحث عن الانتقام أو إثبات القوة، بل عن السلام.
في ليالٍ كثيرة، كانت تبكي وهي تتأمل انعكاس وجهها في المرآة، لا حزنًا على ما مضى، بل على ما سمحت له أن يضيع منها. كانت الدموع تغسل الغشاوة عن روحها، وتمنحها وضوحًا جديدًا. 

صارت تتحدث إلى نفسها كما لو كانت صديقة قديمة عادت من المنفى. ومع كل يوم يمر، كانت تستعيد شيئًا من نورها، من ضحكتها، من صوتها الذي خفت طويلًا.

كما تقول Judith Orloff في كتابها Emotional Freedom»: الحرية العاطفية لا تعني غياب الألم، بل أن نختار ألا نُعرّف أنفسنا من خلاله». تعلمت أن الشفاء لا يعني نسيان الجرح، بل تقبّله دون أن يسمح له بأن يتحكم بها. 

صارت تفرّق بين الذاكرة والحنين، بين الغفران والتساهل، بين الحب والاعتياد. بدأت تدرك أن قوتها الحقيقية لم تكن في صمودها أمامه، بل في قدرتها على النهوض بعد أن سقطت، وعلى اختيار ذاتها هذه المرة دون تردد.

في جلسة من جلسات العلاج، حين سألها المختص: «متى شعرتِ أنك بدأتِ تتنفسين مجددًا؟»، ابتسمت وقالت بصوت خافت: «عندما توقفتُ عن محاولة فهمه، وبدأتُ في فهم نفسي»، كانت تلك الجملة البسيطة كعتبةٍ إلى عالم جديد، عالم تُحب فيه نفسها دون خوف، وتمنحها ما كانت تظنه حكرًا على الآخرين: الاهتمام، والرحمة، والقبول.

في مسيرتها الجديدة، اكتشفت أن الوحدة ليست دائمًا فراغًا، بل فسحة للتنفس. أن الهدوء ليس صمتًا، بل لغة جديدة للتوازن. كانت تكتب مذكراتها كل صباح، وتبدأ كل صفحة بجملة تذكّرها بما قطعت من طريق. كانت الجمل تتناثر كزهورٍ صغيرة على أطراف الذاكرة، تشهد على ميلادها من جديد.

وكما كتبت«Susan Anderson في كتابها «The Journey from Abandonment to Healing»: في لحظة الوعي، تبدأ الروح بإعادة بناء نفسها، قطعةً قطعة، إلى أن تدرك أن الخسارة لم تكن نهاية، بل دعوة للبدء من جديد.

الآن، وهي تسير في شوارع المدينة القديمة، تشعر بأن الضوء الذي كان غائبًا عنها لم يأتِ من الخارج، بل من داخلها. لم تعد تبحث عن من يُكملها، فقد صارت مكتملة بما اكتسبته من تجربة وجرحٍ ووعي. 

كانت تعرف أن النور الذي يُولد من قلب الظلام هو أصدق أنواع النور، وأن النجاة ليست نهاية الحكاية، بل بدايتها الحقيقية.

كانت تمشي بخفة امرأة سامحت ماضيها، واحتضنت ضعفها، وتصالحت مع طريقها. خلفها فوضى البدايات، وأمامها ضوءٌ لا يخبو، ضوءٌ في آخر النفق، كانت هي مصدره.. يتبع.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق