في وقتٍ ارتبطت فيه صورة المثقف المصري بالبذلة ورابطة العنق والمقهى الثقافي، ظلّ هناك نفر من الكتّاب والمفكرين الذين تمسّكوا بمظهرهم الشعبي وارتدوا الجلباب كرمز للانتماء إلى البيئة المصرية الأصيلة، دون أن ينتقص ذلك من قيمتهم الفكرية أو حضورهم الإبداعي.
أبرز هؤلاء كان محمد مستجاب، الكاتب والمبدع الذي ظلّ حتى رحيله نموذجًا للمثقف القروي المتمرد، فحوّل الجلباب من زيّ يومي إلى بيان ثقافي ضد التصنّع.
محمد مستجاب.. المثقف القادم من الصعيد
في رواياته ومقالاته الساخرة، كان محمد مستجاب يكتب بلغة تجمع بين الفصحى والدارجة، مثلما كان يرتدي الجلباب في الندوات واللقاءات الثقافية دون أن يراه الناس غريبًا.

لقد شكّل حضوره بهذه الهيئة موقفًا فكريًا وجماليًا، يعيد الاعتبار للريف المصري كمنبع للحكمة والخيال، ويرفض الصورة النمطية للمثقف الذي ينعزل عن الناس.
كان مستجاب يقول دائمًا إن "الجلباب ليس زيًا بل هوية"، لذلك تحوّل في الذاكرة الثقافية إلى رمز للتصالح مع الأصل، في زمنٍ حاول فيه كثيرون التنصّل من جذورهم.
يوسف إدريس.. ابن الريف بثوب المدينة
ورغم أن الدكتور يوسف إدريس اشتهر بمظهر أقرب إلى النمط المدني، فإنه ظلّ في كثير من المناسبات يرتدي الجلباب أو العباءة الريفية في بلدته أو أثناء تصوير أعماله التليفزيونية، مؤكّدًا أنه لا انفصال بين المثقف والبيئة التي خرج منها.
في حواراته الصحفية، كان يدافع عن فكرة أن المثقف الحقيقي “لا يُصنع في الصالونات، بل في الحقول والمصانع والشوارع”، وهي روح قريبة من فلسفة مستجاب في رفض الزيف الاجتماعي.
جمال الغيطاني.. الجلباب الصوفي
أما جمال الغيطاني، صاحب “الزيني بركات” و”التجليات”، فقد استعاد الجلباب في سياق آخر، أكثر روحانية وتأمّلًا.
كان يرتديه أحيانًا في رحلاته إلى الصعيد أو أثناء زياراته لمقامات الأولياء، باعتباره امتدادًا للثقافة الصوفية المصرية التي كان الغيطاني مفتونًا بها.

من خلاله أراد أن يعبّر عن المثقف المتصوف، الذي يجمع بين المعرفة والذوق الإنساني، وبين الحداثة والتراث.
إبراهيم أصلان.. هدوء البساطة

لم يكن إبراهيم أصلان يرتدي الجلباب دائمًا، لكنه ظلّ يعبّر عنه في شخصياته الروائية، خصوصًا في “مالك الحزين” و”وردية ليل”.
أصلان كان يرى في الجلباب رمزًا للصمت والرضا والكرامة، وهو ما ميّز شخصياته القادمة من حي إمبابة الشعبي.
في حياته الخاصة، كان يفضّل الملابس البسيطة غير المتكلفة، مؤمنًا بأن “الثقافة ليست ما نرتديه، بل ما نحمله من تواضع وصدق”.
على اختلاف تجاربهم، يجتمع هؤلاء المبدعون على رؤية واحدة: أن المثقف المصري لا يجب أن ينفصل عن جذوره، وأن الجلباب لا يعني الجمود، بل الأصالة والانتماء.















0 تعليق