في زمن يختلط فيه صوت الحقيقة بضجيج الشائعة، يصبح النقاش ضرورة وجودية لتشكيل الوعي، لا مجرد رفاهية فكرية، هذا المبدأ ليس جديدًا؛ ففي الحضارة اليونانية القديمة، قام منهج الفيلسوف سقراط على فكرة جوهرية، وهي إلزام محاوريه على توليد المعرفة لا تلقينها، لأن الوعي يُصنع بالنقاش المشترك، والحقيقة أن الوعي بالنسبة للإعلامي –كما للفيلسوف- ليس مرادفًا للمعرفة، بل هو معنى أكثر شمولًا؛ فالمعرفة نتاج للوعي وجزء منه، واليوم، يقف الإعلام بشقيه -التقليدي والرقمي- على مفترق طرق في انتظار وقفة تأمل جادة ورصينة على غرار تلك النقاشات القديمة.
هذه الوقفة الضرورية هي تحديدًا ما حققه منتدى مصر للإعلام، ليصبح غرفة عمليات فكرية لفك شفرات المستقبل الإعلامي، ولترجمة هذه الضرورة الفكرية إلى واقع عملي، فقد شهد المنتدى، الذي انعقد على أرض مصر خلال يومي 8 و9 نوفمبر 2025، مشاركة نخبة من كبار صناع الإعلام والخبراء من مختلف المدارس الصحفية والإعلامية محليا ودوليا، فقد كنت شاهدا في ذلك المنتدى على ما طرحه المشاركون من تحديات وقضايا، كالتطور الهائل للتكنولوجيا، وايجابيات وسلبيات الذكاء الاصطناعي، حيث كشفت تلك النقاشات أن التغيرات المتسارعة، تصنع عالمًا من الفرص، لمن يحسن اغتنامها، إلا أنها ستكون أيضا عائقا يهدد من لا يستوعب التغيير بالإقصاء.
لا يمكن القول برفض التشبث بتلابيب الماضي بما فيه إرث عريق من الثوابت المهنية، وأخلاقيات العمل الإعلامي، وخبرة "أسطوات" المهنة ومؤسسيها، بل لابد أن يكون قواعد معيارية يمكن الانطلاق منها لصناعة رسالة إعلامية رصينة، لكننا في الوقت ذاته نرى ضرورة عدم تجاهل التحول السريع للتكنولوجيا، وكما أشار أحد الخبراء: "يكمن التحدي في الاستفادة المثلى من الأدوات التكنولوجية، لخدمة المحتوى ودعم الإعلام، مع الحذر الشديد من التغول على دور العقل البشري وقدرته على التحليل والنقد، ويتطلب هذا التوازن الدقيق مزيجا من الوعي، والحيطة المهنية، والخبرة المتراكمة، والمراقبة المستمرة لتظل بوصلة الإعلام موجهة نحو المهنية والأخلاق".
وما يميز هذا المنتدى بصورة لافتة هو رؤيته الاستشرافية، حيث لم تكتف إدارته بمشاركة الفاعلين والخبراء في الحقل الإعلامي فحسب، بل مدت جسور التواصل مع المستقبل من خلال إتاحة الفرصة لطلاب كليات الإعلام للمشاركة، لقد كان مشهد حضور أجيال المستقبل الإعلامي برفقة أساتذتهم –من مختلف الجامعات المصرية– هو المشهد الأبرز والأكثر عبقرية؛ لأن هذا التوجه يتيح للطلاب فرصة لملامسة قضايا المهنة الحقيقية، والاستماع إلى آراء الخبراء حول هذه التحديات، بما يسهم في تشكيل الوعي الإعلامي المبكر وتنشئة جيل واع ليس فقط بأدوات المهنة، بل بتحدياتها الأخلاقية والتكنولوجية.
لقد استطاع المنتدى بناء ما يمكن أن نسميه قاعدة إعلامية مفاهيمية من خلال ما قدمه المشاركون من طرح جريء وفكر واع، إلا أن التساؤل الأبرز الذي يجب أن يشغل جهدنا، هنا هو كيف يمكن أن نستوعب هذا الزخم الذي صنعه المؤتمر لننتقل بما قدمه من رؤى من كونها مجرد رؤى إلى تطبيقات تؤثر في المشهد الإعلامي؟
إن جزءًا من الإجابة عن هذا التساؤل جاء في مداخلة أحد المشاركين في المنتدى حين قال: "إننا لسنا أصحاب القرار التكنولوجي"، ومع اتفاقنا مع كون المنتدى ليس جهة تنفيذية ولا يمكن تحميلة مسؤولية التطبيق، إلا أنني أؤمن أيضا أن الفصل التام بين الرؤية والتنفيذ سيبقي جهودنا محاصرة في دوائر منعزلة، وحينها سينطبق علينا المثل الشعبي: "بيأدن في مالطا"، وسؤالي هنا لا يعكس نقدا، بل هو شهادة على أهمية وعمق النقاشات التي أطلقها المنتدى، ويؤكد الحرص على استغلال ما قدمه من زخم معرفي إعلامي.
من الجيد أننا "بنأدن في القاهرة"، فبلد المآذن هي أيضًا بلد المؤسسات الإعلامية العريقة، القادرة على تحويل الرؤية إلى واقع تطبيقي، كما أن مستوى الشراكات والحضور في المنتدى تمثل فرصة عظيمة –إن تم استثمارها- حيث جمعت النسخة الثالثة من منتدى مصر للإعلام أكثر من 2000 صحفي وإعلامي من مصر والمنطقة والعالم، إلى جانب نخبة من المتحدثين الدوليين وقيادات المؤسسات الإعلامية الكبرى في الوطن العربي والعالم، هذا التنوع في الحضور والمشاركين منح المنتدى طابعا دوليا وإقليميا، وفتح آفاقا لتبادل الخبرات والرؤى بين مختلف الأجيال والتوجهات الإعلامية.
إن الفرصة بوجود هذه المؤسسات الإعلامية العريقة يتيح لمخرجات هذا المؤتمر الدخول حيز التطبيق، ففيها تكمن الإجابة عن تساؤلانا حول الانتقال من الرؤى إلى التطبيقات، فالشراكات الحقيقية مع المؤسسات الإعلامية هي الجسور التي تصل بين الفهم والتطبيق، ويمكن من خلالها استثمار مخرجات المنتدى، وفي رأيي فإن هذه الشراكة ليست حلمًا بعيد المنال، فالتحديات التي خلقتها التغييرات التكنولوجية المتسارعة خلقت تعطشًا للأفكار والرؤى البناءة لشغل الفجوة الزمنية التي تسببت بها تلك التغيرات، بما يتيح لإعلامنا إدراك ما فاته من أجل إعلام يلحق بركب هذه التغييرات، ولا شك أننا نستطيع.







0 تعليق