قدم الروائي اليمني حميد الرقيمي في روايته «عمى الذاكرة» تجربة غربة ومعاناة إنسانية عميقة، من عدن المدمرة هربًا إلى شوارع القاهرة، حيث يتتبع النص أثر الحرب على الذاكرة والهوية، ويكشف كيف يصبح الوجع حيًا، والحنين ملازمًا للروح.
هذه الرواية ليست مجرد سرد لأحداث، بل رحلة في أعماق النفس الإنسانية، حيث تتحطم المدن، وتتمزق الذكريات، وتصبح الكتابة ملاذًا لاستعادة ما تبقى من إنسانية.
ستقرأ في مقاطعٍ شديدة الصدق من الرواية كيف تتحوّل رحلة الهروب من عدن إلى امتحان وجودي؛ فهو لا يغادر مجرد مكان، بل يغادر هويةً كاملةً مشوّهة بالحرب. ومن هنا ينفتح النص بصوتٍ يئنّ من ثِقَل الذكرى ومن عنفها:
«مع مرور الأيام اعتاد الناس حياة الحرب، ولم تعد المشاهد تؤثر عليهم، أنا أيضًا غرقت في هذا الجو الذي كان يسحبني كل يوم إلى هوة جديدة... مغادرتي لم تكن هربًا من الموت، بقدر ما كانت هروبًا من الأشباح والذكريات والجوع الذي يتربص أحشائي...!»
هذه الكلمات توقظ كل دلالات الرحيل، حيث ينهار المكان، وتتشظى الذات، وتتلاشى الرؤية في ضبابية الزمن.
لقد اختزل الكاتب في وصفه لعدن المدينة في صورة أم فقدت بهجتها، تلتحفها الأشباح، وتغيب عنها رقصة الحياة:
«عدن مدينة السحر والجمال... الأنثى التي وقفت على بابها دول ومعسكرات بغية النيل منها، كانت هي الأخرى منتكسة، بعد أشهر من الحرب تحولت إلى مدينة أشباح... ضاعت عن محيّاها بهجة الأغنية العدنية، تلاشت رقصة أهلها، وصارت عرجاء تقف منحنية دون سند»
من هنا تنطلق فكرة الرواية الرئيسة: المدن المدمّرة لا تفقد فقط مبانيها، بل تفقد ذاكرتها أيضًا، وتشيد في النفوس أطلالًا لا تقل وقعًا عن الخراب المادي.
وحتى عند وصوله إلى القاهرة بعد هروبه من عدن، تبدّلت النبرة قليلًا، لكن الألم لم يهدأ؛ فالقاهرة كانت مرآة ضخّمت داخله تغريبة المنفى:
«في طريقنا إلى القاهرة، عاصمة الدنيا وحاضنة الأهرام وروح الطرب والأدب والفكر العربي الذي شكّل أممًا وحضارات... غادرت عدن وحزن مستبد يظلِّلها...»
وهكذا بدأت الرحلة الجديدة من الهروب، الضياع، والموت المؤجّل إلى المجهول المخيف.
صارت القاهرة، بوهجها الثقافي والتاريخي، مسرحًا لتغريبة منسية، وظهر حيّ بولاق الدكرور كمكان لتجمّع اليمنيين، لكن هذا التجمع لا يمحو تجربة الغربة:
«في هذا الحي يقطن آلاف اليمنيين... في كل مكان منه يمني هارب من الحرب، أشاهد المحلات والمطاعم والمقاهي تحمل أسماء يمنية خالصة، مخابز ومتاجر خاصة بالمواد الغذائية التي يهتم بها اليمني، ألفوا المكان... تناثرت من ملامحهم تجاعيد الغربة... لم يكن أكثر من طعنات أخرى أتلقاها كل يوم وتعيدني إلى سيرتي الأولى، نسيان كاذب نخادع به أنفسنا دون جدوى».
أعمق صراع في النص هو معاناة الكاتب مع ذاكرته الممزقة، وغربة قلبه، كل شارع في القاهرة يعيد إليه أطلال عدن، وكل زاوية تستحضر وجوهًا وأصواتًا غابت عن حياته، الغربة هنا ليست مجرد مكان، بل شعور يحاصر الروح، ويطحن القلب، ويجعل من كل لحظة امتدادًا للألم والحنين، وكأن جزءًا من كيانه ما زال عالقًا بين وطنه وذكرياته التي لا تموت.
وفي شارع فيصل، يصبح المكان ذا دلالة خاصة؛ ليس مجرد شارع، بل خريطة ذاكرة محرّفة تتراكب فيها صور اليمن على مشاهد مصرية:
«ما أن تطأ قدماك شارع العشرين في فيصل، حتى تتزاحم أمام عينيك صور اليمن الحقيقية... تأتي إليك رصاصات الحرب وأنت في مكانك، تنهال عليك صيحات الجوع في بلادك وأنت هنا...»
الصدام الصارخ واضح؛ الغربة ليست هروبًا من الجراح وحدها، بل مواجهة مستمرة مع أشلاء الوطن التي لا تفارق العين.
المأساة الأكبر تتجلى في الاستعداد للهروب مجددًا، من القاهرة إلى السودان، ثم ليبيا، فركوب القارب إلى إيطاليا، إلا أن المال وقف حائلًا:
«كان على كل شخص منا أن يدفع ثلاثة آلاف دولار... ما كنت أملكه أقل من ذلك... دخلت وقتها في صمت طويل... ولم أتمكن من الرفض والبقاء في شارع فيصل الذي يحمل وجعي كله».
لقد كانت معاناة العبور بين أنقاض الذاكرة أكثر من مجرد حركة مكانية، بل فعل وجودي يستكمل فيه الراوي شقًا من كيانه الممزق. وهنا تصبح الكتابة وسيلة نجاة: تسجيلًا، وتوثيقًا، ومحاكاةً للحياة التي حاولت الحرب مصادرتها.
صورة الوطن بدت ممزقة ومنفصمة الملامح، والكتابة لم تكن نهاية الرحلة، بل بدايتها الجديدة؛ مقاومة للطمس، واستعادة لما تبقّى من إنسان يرفض أن يُمحى، بينما الوجع حيّ والغربة ترافقه، وذكراه ممزقة… فهل تصمد إنسانيته وسط أطلال الذكريات؟.
الأسبوع القادم بإذن الله، أكمل قراءة رواية «عمى الذاكرة» للكاتب حميد الرقيمي.








0 تعليق