من التباهي إلى النهوض: كيف نحول فخر المصريين بالمتحف الكبير إلى مشروع قومي للتطور

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الأيام التي تلت افتتاح المتحف المصري الكبير، لم يكن المشهد عاديًا. شوارع القاهرة، ووسائل التواصل، والمقاهي، وحتى الحوارات العابرة في سيارات الأجرة، امتلأت بشيء يشبه الفخر الجمعي، أو كما يسميه البعض “التباهي الوطني”.
رأينا المصريين — من مختلف الطبقات والأعمار — يلتقطون صورهم أمام المتحف أو يضعون وجوههم على هيئات ملوك الفراعنة وكهنتهم، ويتبادلون كلمات الإعجاب والانبهار بالحدث الذي جمع بين العظمة والحداثة. بدا وكأن المصريين تذكّروا فجأة أن لديهم شيئًا كبيرًا يستحق الاحتفاء، وأنهم لم يُمحوا تمامًا من خريطة الحضارة كما يُراد لهم أحيانًا أن يظنوا.
هذه الظاهرة — رغم بساطتها في ظاهرها — ليست مجرد موجة عابرة من الفخر، بل يمكن قراءتها كمؤشر نادر على استيقاظ الشعور بالانتماء والإمكانية؛ ذلك الشعور الذي خبا في العقود الأخيرة بين أزمات اقتصادية خانقة، وإحباطات متراكمة، وصور يومية عن تراجع التعليم والصحة والمرافق.
المتحف الكبير، بموقعه المطلّ على الأهرامات، لم يكن مجرد مبنى أو حدث ثقافي؛ بل كان حدثًا رمزيًا — لحظة مصالحة بين المصريين وتاريخهم، وتذكيرًا بأن ما كان عظيمًا يمكن أن يعود.
لكن السؤال الأهم الآن:
هل يمكن أن يظل هذا الشعور مجرد فورة عاطفية؟
أم يمكن تحويله إلى مشروع قومي للنهوض والتطور؟
من التباهي إلى الوعي

الفارق بين التباهي والوعي، هو الفارق بين من يُعجب بالماضي كديكور، ومن يستلهمه كدافع.
التباهي وحده، إذا لم يُترجم إلى سلوك منتج، يتحول إلى نوع من التنويم الجماعي، كمن يحدّق في مرآة جميلة وينسى أن يغسل وجهه.
لكن حين يقترن الفخر بالمسؤولية، يبدأ التحول الحقيقي.
في الحالة المصرية، هذا التحول ممكن.
الروح التي ظهرت في مشاهد الاحتفاء بالمتحف يمكن استثمارها في بناء مشروع وطني للتحديث الثقافي والتنموي، شرط أن يتجاوز الأمر حدود الصور والمنشورات إلى وعي مؤسسي ومجتمعي بدور كل فرد في صناعة الحاضر.

الاستثمار في الفخر كمورد وطني
يُقال في علم الاجتماع الثقافي إن “الأمم لا تنهض بالموارد المادية أولًا، بل بالموارد الرمزية”.
والفخر هو أحد أهم هذه الموارد.
حين يشعر المواطن أن بلده جميلة، عادلة، قادرة، فإنه يعمل من أجلها بحب لا بإكراه.
حين يرى المصري أن “المتحف الكبير” يشبهه في طموحه وإتقانه، سيتساءل تلقائيًا: لماذا لا يشبهه مستشفاي ومدرستي وشارعي؟
لذلك، فإن استثمار موجة الفخر الحالية يبدأ من الربط بين الجمال والإنجاز:
أن يصبح كل مشروع قومي جديد امتدادًا لتلك الروح.
أن يُقدَّم للعامة بوصفه مشروعًا “يليق بمصر القديمة ومصر الحديثة معًا”.
أن نعيد صياغة الوعي العام حول فكرة الجودة، والنظام، والدقة — وهي قيم لم تكن دخيلة علينا، بل جزء أصيل من حضارتنا منذ آلاف السنين.

المتحف كنموذج إداري وثقافي
من ناحية أخرى، المتحف نفسه ليس فقط صرحًا أثريًا، بل نموذجًا إداريًا يمكن الاقتداء به.
فوراء هذا المشروع منظومة متكاملة من التخطيط والهندسة والإدارة والعلاقات الدولية، امتدت لأكثر من عقدين من الزمن.
هذا يعني أن النجاح لم يأتِ صدفة، بل نتيجة رؤية طويلة النفس وشراكة بين مؤسسات الدولة والعالم.
فلماذا لا يُنسخ هذا النموذج في مجالات أخرى؟
لماذا لا يكون لدينا “متحف كبير للعلم”، أو “متحف كبير للفنون المعاصرة”، أو “مشروع قومي للبيئة”؟
لماذا لا تصبح مشروعات التعليم والصحة والبنية التحتية امتدادًا لذات الروح: الجودة، التنظيم، الطموح؟
لو تحولت تلك المبادئ إلى منهج إداري عام، وليس استثناءً لمناسبة كبرى، سنكون أمام بداية حقيقية للنهوض.

الإعلام والتعليم... أدوات التحويل
من الضروري أن تتبنى وسائل الإعلام والتعليم دورًا مركزيًا في تحويل الفخر العاطفي إلى فخر معرفي وسلوكي.
أن تشرح، لا أن تكتفي بالتهليل.
أن تربط المتحف بتاريخ العلم المصري القديم، بتقنيات البناء، بعلوم الفلك والهندسة والطب، لتقول للأجيال الجديدة:
“أنتم أبناء حضارة عاقلة، لا مجرد أصحاب آثار”.
كما يجب أن يدمج التعليم هذه اللحظة في مناهجه، لا عبر الدروس النظرية فقط، بل عبر مشروعات مدرسية وجامعية تحفز الطلاب على إعادة تخيل حضارتهم بأدوات العصر:
تطبيقات رقمية، أفلام وثائقية، تصميمات معمارية مستوحاة من التراث، أبحاث عن الإدارة والترميم والابتكار.
هكذا يتحول المتحف من “حدث” إلى “رؤية تربوية”.

من الاقتصاد الرمزي إلى الاقتصاد الفعلي
الافتخار لا يكون نافعًا إلا إذا أنتج قيمة اقتصادية مضافة.
المتحف يمكن أن يكون محورًا لصناعة كاملة:
سياحة ثقافية راقية، إنتاج فني ومعماري، براند مصري جديد في العالم.
لكن الأهم هو توسيع فكرة “المتحف” لتشمل مفهوم التنمية الثقافية، أي استثمار الثقافة والتراث كمورد اقتصادي مستدام.
يمكن لمصر أن تتحول إلى مركز إقليمي للصناعات الثقافية والإبداعية، من الحرف اليدوية المستلهمة من التاريخ، إلى السينما والفنون الرقمية والتصميم.
وهنا يأتي دور الدولة والقطاع الخاص معًا، لتأسيس منظومة تمويل ودعم للمبدعين والشركات الناشئة في هذا المجال.
فكما نجح المتحف في جذب أنظار العالم، يمكن لصناعاتنا الثقافية أن تجذب استثماراته.

مشروع قومي جديد... يتسع للجميع
ما نحتاجه اليوم هو مشروع قومي جديد — لا يشبه مشروعات البنية التحتية فقط، بل مشروع لإعادة بناء الإنسان المصري.
مشروع يقوم على فكرة بسيطة لكنها ثورية:
أن الفخر ليس ترفًا، بل وقود التطور.
أن التباهي لا يصبح سلبيًا إلا حين يكون بديلًا عن الفعل، لا حين يكون دافعًا له.
يمكن أن يبدأ هذا المشروع من حملة وطنية شاملة، تشجع المصريين على الإتقان والجمال في مجالاتهم الصغيرة، كما أُتقن بناء المتحف.
من سباك في قرية إلى مهندس في العاصمة، من معلم إلى فنان، من موظف صغير إلى وزير.
فكرة أن “ما نفعله يجب أن يليق بتاريخنا”.
أن يكون الشعار: “افخر بعملك كما فخرت بمتحفك”.

نحو ثقافة جديدة للفخر
إنّ أخطر ما أصاب المصريين في العقود الأخيرة هو تآكل الشعور بالجدارة.
الناس لم يعودوا يصدقون أن بإمكانهم التغيير، أو أن الجمال ممكن في واقعهم.
لكن المتحف الكبير، في لحظة واحدة، هدم هذا الإحباط الجماعي.
أثبت أن المصري حين تتوفر له الإدارة والرؤية، يصنع معجزة.
أثبت أن الفخر ليس شيئًا يُستورد من الماضي، بل يُبنى في الحاضر.
من هنا، يجب أن نحول الفخر إلى ثقافة دائمة:
ثقافة تؤمن بأننا نستطيع، وأن الجمال ليس حكرًا على الماضي، وأن بناء متحف للروح لا يقل أهمية عن بناء متحف للحجارة.

بداية جديدة من حجر قديم
ربما كان افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا ثقافيًا في ظاهره، لكنه في جوهره حدث وطني حضاري يعلن أن مصر لا تزال قادرة على أن تبدأ من جديد.
الرهان الآن هو ألا يضيع هذا الزخم كما ضاعت غيره من لحظات التفاؤل.
أن نستثمره في بناء منظومة قيمية جديدة، تجعل من الفخر الوطني برنامج عمل لا انفعالًا مؤقتًا.
أن نحول “التباهي” إلى “تخطيط”، و”الانبهار” إلى “إرادة”، و”الماضي” إلى بوصلة نحو المستقبل.
حينها فقط، سيكون المتحف الكبير ليس نهاية عصر من الحنين، بل بداية عصر من النهضة المصرية الثانية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق