«تحول»

«تحول»
«تحول»

السبت 19/أكتوبر/2024 - 07:45 م 10/19/2024 7:45:05 PM

محمود أحمد على
محمود أحمد على

بيوت طينية متهالكة ما زالت تبتلعها الأرض فى إصرار..
الشارع مزدحم عن آخره بأجساد المارة الهزيلة الممصوص دمها، التى راحت تتحرك فى استسلام وآلية منتظمة، ووجوههم تتصبب عرقًا وألمًا..
رغم السنوات التى باعدت بيننا؛ إلا أننى عرفته من وقع خطواته المميزة، حيث إن له ساقًا أطول من ساق، عرفته رغم انحناء ظهره الذى صار كعلامة استفهام، وجدتنى أزعق فيه من الخلف:
- يا نور..
عجبًا لماذا لم يلتفت إلىَّ..؟!! أترى لم يسمعنى..؟!! رحت أزعق فيه مرات متتالية، حتى بح صوتى..
زعيق صوت العربات المتواصل.. المتداخل أضاع صوتى..
وجدتنى أتخبط فى المارة؛ بعد أن قررت اللحاق به..
- نور..
قلتها فى سعادة وأنا أضع يدى فوق كتفه..
التفت إلىَّ..
بدا وجهه شاحبًا مرهقًا، وهو الذى كان يشع نورًا وأملًا..
قلت معاتبًا:
- يا رجل ظللت أنادى عليك كثيرًا ولم تجبنى..
ما زال يحدق وبشدة فى وجهى..
تبسم فى وجهى ابتسامة صافية.. نقية، كالحليب الطازج الذى لم تمسسه يد الغش بعد، وسرعان ما راح يقول:
- مَن.. يا ه ه ه ه ه ه ه
ضمنى إلى صدره وهو يقول فى حزن ويأس بصوت محبوس ومرتجف:
- أقسم لك أننى كدت أنسى اسمى تمامًا؛ بسبب كثرة تلك الأعباء والضغوط التى لا تنتهى، أو على الأقل تقف عند حد بعينه، لقد جرفتنى عجلات الحياة الحديدية، تلك العجلات التى لا ترحم و........ و........ و........ و....... و....... 
بات «نور» يقول..
ويقول..
ويقول..
حروف كلماته الحبيسة تخرج مسكونة بالحزن..
ظل يسرد علىَّ مآسيه التى لا تنتهى، وكأنها جاءت من أجله 
من أجله هو فقط دون غيره، وعن عمله الإضافى- الذى قصم ظهره- بعد وظيفته الحكومية عن..... وعن...... وعن......
كثرة شكواه المتلاحقة كادت تبكينى؛ لولا تماسكى الشديد؛ حتى لا أشعره بضعفه وانهزاميته.
ماذا حدث له..؟!! إنه لا يستحق كل ما حدث له، فهو صاحب إحساس مرهف وأخلاق رفيعة، وثقافة موسوعية عالية الجودة، فهل تكون هذه مكافأته لما لديه من مميزات قلما تجدها عند غيره..؟!!
أعلم أنه رفض الزواج، ليس من أجل الزواج، وإنما من أجل أختيه اللتين تركهما والده أمانة فى رقبته، وحتى بعد أن اطمأن على أختيه بأن زوجهما، رفض فكرة الزواج؛ خشية أن يأتى بزوجة تأخذه من حبه ورعايته لأمه التى ظل يرعاها حتى اللحظات الأخيرة من عمرها..
راح يقول.. ويقول، وأنا أستمع إلى نبرات صوته الحزينة التى آلمتنى بشدة، وأنا أقف أمامه أحدق فى قسمات وجهه التى سكنها الحزن والكآبة، حتى وجدته يقول فى نبرة غاضبة.. صادقة.. صادمة:
- نحن الذين أعطيناهم الخبز؛ لنجوع ويأكل بعضنا بعضًا، 
وسرقوا من أحلامنا البسيطة، لتضاف إلى أحلامهم و........ 
وجدتنى أقاطعه فى حدة:
- مَن.. تقصد مَن..؟!!
تغيرت ملامحه تمامًا..
تبسم فى وجهى ابتسامة لا لون لها، ثم راح يقول بعد أن تنهد تنهيدة طويلة:
- غدًا.. غدًا سوف تعرف مقصدى..
مد إلىَّ يده ليصافحنى؛ بعد أن نظر فى ساعة يده السمراء حالكة السواد مثل حكاياته، ثم راح يقول فى تحد صارخ:
- أعدك.. أعدك أننى لن أستسلم.
صافحته وصار مهرولًا نحو الشارع الأصم رغم ازدحامه، وتفرقنا ثانية كلٌ فى اتجاه عكس الآخر.

الأبراج السكنية شاهقة الارتفاع كادت «تسد» عين الشمس..
الشارع مزدحم عن آخره بالسيارات الفارهة ذات الألوان والأحجام المختلفة..
حمراء هى إشارة المرور..
- آه ه ه ه ه ه
قلتها صارخًا بقوة بعد أن مر مرورًا سريعًا أحد أصحاب السيارات بعجلة سيارته الأمامية فوق أصابع قدمى اليسرى، فى محاولة منه لكى «يركن» سيارته جانبًا. 
مبتسمًا نزل صاحب السيارة الضخم، فتح الباب الخلفى، نزل كلب يشبهه إلى حد كبير فى ضخامته، صار الرجل فى طريقه- ساحبًا خلفه كلبه «المربوط» من رقبته بسلسلة طويلة ذهبية اللون- وهو يضحك ضحكات الواثق من نفسه، دون أن يلتفت إلىَّ معتذرًا- على الأقل- عما بدر منه دون قصد.
ترى هل حقًا فعلها دون قصد منه..؟!! إن كان كذلك، فلماذا لا يعتذر..؟!! أم تراه تعمد أن يسحقنى بعجلات سيارته..؟!! أم أنه لا يشعر بوجودى؛ لضآلة حجمى..؟!!
عجبًا..
كيف يتسنى لى أن أنسى صاحب هذه الابتسامة..؟!! صاحب هذه الضحكات التى تميزه عن غيره.. إنه هو.. نعم هو لا.. لا ليس هو، فالآخر نحيف كعود القصب الممصوص بعد عصره، وهذا إذا قسمناه يكاد يخرج منه عشرة أو أكثر.. لا ليس هو، وإذا سلمت بأنه هو بعد التعديل، فكيف يستطيع أن يساوى بين رجليه هكذا..؟!! 
غريزة حب الاستطلاع بداخلى قد وصلت ذروتها.. جعلتنى أنقاد إليه، فوجدتنى أسرع الخطى خلفه، وأنا أقدم رجلًا وأجر الأخرى المصابة، حتى وجدتنى أضع أصابعى فوق كتفه- كما تعود- فتوقف على الفور بعد أن تسمرت قدماه فى مكانهما، ورحت أقول مبتسمًا:
- نور..
غاضبًا حدق فى وجهى مستغربًا.. 
تشكلت عضلات وجهه لترسم علامات تعجب كثيرة، بعد أن تلون بألوان الطيف، ثم راح- مبتسمًا ينظف مكان أصابعى من فوق كتفه، وجدتنى أصرخ فى وجهه:
- والله العظيم.. أنت نور، فمهما تغيرت، وتبدل حالك أنت نور.. والله العظيم نور.
أشار إلى كلبه إشارة سريعة خاطفة- لم أفهم معناها- على الفور فهم الكلب مقصده، رأيت الكلب ينتفخ ويتضخم أكثر فأكثر عن حجمه الطبيعى، بعد أن كشر فى وجهى تأهبًا للهجوم المتوقع، وجدتنى أتراجع للخلف وأنا أردد فى خوف:
- أنا آسف.. أنا آسف يا سعادة البيه، يخلق من الوجه أربعين وجهًا.. لا.. لا بل ألف وجه ووجه، عليك أن تسامحنى.. بالله عليك سامحنى.
- هاء.. هاء.. هاء 
وجدتنى أسير بظهرى وأنا ما زلت أعلن أسفى، وهو لا يزال يضحك ساخرًا. 

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق جيش الاحتلال يطالب بإخلاء مبنيين في حارة حريك بضاحية بيروت الجنوبية
التالى بوتين: مجموعة البريكس ستقود النمو الاقتصادي العالمي