ينتمي كتاب "الإسلام وما بعد الحداثة: تفكيك القطيعة واستئناف البناء"، للكاتب د. محمد بشاري، إلى مشروع فكري متكامل يسعى إلى إعادة بناء الوعي الإسلامي في ضوء التحولات الكونية الكبرى التي فرضتها العولمة وما بعدها، حيث يغدو الدين — في تصور المؤلف — ليس مجرد نسق تعبدي، بل طاقة حضارية قادرة على إنتاج المعنى في زمن ما بعد الحداثة. يطرح بشاري سؤالًا مركزيًا: هل يمكن للإسلام أن يقدّم نموذجًا حضاريًا متجدّدًا داخل عالم ما بعد الحداثة، دون أن يذوب في منطقها أو يخاصمها؟.
ينطلق الكتاب من تشخيص أزمة الإنسان المعاصر الذي فقد بوصلته بين "تأليه التقنية" و"تبخيس المعنى"، ويتتبع التحولات التي أفرزت قطيعة إبستمولوجية بين الإنسان والعالم، والعقل والوحي، والقيم والحرية.
وبهذا المعنى، فإن المؤلف لا يكتفي بمسائلة الحداثة أو نقد ما بعدها، بل يسعى إلى استئناف البناء الحضاري على أسس جديدة، تجعل من الإسلام شريكًا معرفيًا في صياغة المستقبل.
مقدمة… أسئلة البدء
تتخذ مقدمة الكتاب طابعًا فلسفيًا تأمليًا، إذ يبدأ المؤلف بمقولة تأسيسية: "إن الحديث عن الإنسان في زمن الحداثة لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورةً وجودية." ومن هذا المنطلق، يضع ثلاث تساؤلات مركزية تحكم بناء الكتاب بأسره:
1. هل الحداثة وما بعدها حكرٌ على التجربة الغربية، أم يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تبلور نموذجها الحداثي الخاص؟
2. كيف يمكن المواءمة بين الطفرة الرقمية ومفهوم الإنسان في الفكر الإسلامي دون السقوط في التبعية أو الانغلاق؟
3. وهل تشكل ما بعد الحداثة فرصةً لاستئناف المشروع الحضاري أم مجرّد تكرارٍ لانقطاعٍ جديد؟
يؤكد بشاري أن هذه الأسئلة لا تنتمي إلى حقل الفكر الفلسفي الغربي فحسب، بل تتعلق بصلب التجربة الإسلامية الراهنة، حيث تتقاطع الأسئلة الوجودية مع مقاصد الشريعة، وتلتقي الإبستمولوجيا الحديثة مع الرؤية المقاصدية في بناء الإنسان.
الفصل الأول: في مفهوم الحداثة
المبحث الأول: الحداثة بين التكوين والانطلاق
ينطلق المؤلف من نقدٍ جذري للقراءة السطحية للحداثة، تلك التي حصرتها في بعدها التقني أو السياسي، مهملين بعدها الإنساني العميق. يستعرض الأصول اللغوية والاصطلاحية لمفهوم «الحداثة»، مستعينًا بتعريفات يورغن هابرماس وماكس فيبر وكانط، ليخلص إلى أن الحداثة ليست «مرحلة زمنية»، بل وعيٌ بالتحول المستمر للعقل الإنساني.
ويرى أن الحداثة الأوروبية لم تكن مجرّد قطيعة مع الماضي، بل كانت «ردّ فعل على لاهوتٍ مغلق»، لذلك نشأت مرتبطةً بتحرير الإنسان من سلطان الكنيسة. غير أن هذا التحرر نفسه — كما يبيّن بشاري — تحوّل إلى عبودية جديدة للعقل الأداتي الذي اختزل الإنسان في بعده المادي. وهنا تظهر المفارقة: فالعقل الذي حرّر الإنسان، هو نفسه الذي سلبه المعنى.
يطرح الكاتب كذلك سؤالًا استباقيًا: هل يمكن للعقل المسلم أن يستعيد وظيفته الاجتهادية في قراءة العالم، من غير أن يقع في أسر «التقليد الحداثي» الذي يقدّس التجربة الغربية؟ ومن هنا يبدأ أول خيط في مشروعه: تأصيل حداثة ذاتية لا تتنكر لتراثها، ولا تخضع للمركزية الغربية.
المبحث الثاني: حقبة ما بعد الحداثة — إلى أين؟
يصف المؤلف ما بعد الحداثة بأنها «زمن التفتت المعرفي»، حيث فقدت الحقيقة مركزها، وحلّ محلّها التعدد والتشظي. يتناول تحوّلات الفكر الغربي من البنيوية إلى التفكيكية، مرورًا بنقد ليوتار لفكرة «السرديات الكبرى» وبودريار لفكرة «المحاكاة»، معتبرًا أن هذه المرحلة تمثل «ذروة الثورة على المعنى».
ويبيّن بشاري أن ما بعد الحداثة جاءت كردّة فعل على فشل المشروع الحداثي في تحقيق وعده بالتحرر الإنساني، لكنها في المقابل عمّقت أزمة الإنسان حين جعلت كل القيم نسبية، وكل المعاني مؤقتة. وهنا يستحضر مفهوم "إنسان الحداثة الرقمية" بوصفه الكائن الجديد الذي يعيش داخل الشاشات، منقطعًا عن الذات والطبيعة والسماء.
ويؤكد أن الإسلام، بما يملكه من رصيدٍ روحي ومعرفي، يمكنه أن يقدّم «تصحيحًا للمسار»، لا بالرفض الأيديولوجي، بل بتقديم بديل أخلاقي للحداثة المنفلتة.
المبحث الثالث: أنموذج إنسان الحداثة في المقاربة الرؤيوية
يُقدّم هذا المبحث رؤية تركيبية لإنسان ما بعد الحداثة بين العقل والنقل، الحرية والقيم، التقنية والروح. يرى المؤلف أن الإنسان الحداثي، بعد أن حرّر نفسه من المقدس، وجد نفسه أسيرًا لآلته. لذا يقترح بشاري العودة إلى «الوسطية العقلانية» التي تجعل من الإيمان عقلًا، ومن العقل إيمانًا.
كما يناقش أثر «الرقمنة المفرطة» على بنية الوعي والثقافة، معتبرًا أن الثقافة الرقمية ليست شرًا مطلقًا، لكنها تحتاج إلى «فقهٍ استشرافي» يوازن بين الإفادة من التقنيات وصون المعنى الإنساني. ويختم هذا الفصل بالدعوة إلى تعريفٍ جديد للإنسان، يتجاوز ثنائية المادة والروح، ليكون «كائنًا للمعنى».
الفصل الثاني: الدين والحداثة – إشكالات العلاقة والمفارقة
المبحث الأول: إشكالية الحداثة في الفكر العربي المعاصر
يحلّل بشاري استقبال الحداثة في الفكر العربي بوصفه استقبالًا متوترًا بين الافتتان والرفض، مشيرًا إلى أن العرب لم يعيشوا الحداثة كتجربة، بل كتصديرٍ ثقافي من الخارج. فالدهشة الغربية تحوّلت في العالم العربي إلى صدمةٍ حضارية، وبدل أن تكون الحداثة مشروعًا نقديًا ذاتيًا، أصبحت مرآةً للغير.
ويستعرض المؤلف مسار النقد العربي للحداثة عند طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي، مبرزًا أن الخلاف بينهم لم يكن حول الحداثة في ذاتها، بل حول كيفية تملّكها. لذلك يقترح «حداثة توليدية» قادرة على إنتاج المعنى من داخل السياق الإسلامي، لا حداثة تقليدية تستورد الأفكار.
المبحث الثاني: خطاب الحداثة في الفكر السياسي الإسلامي
يرى بشاري أن الحداثة السياسية في التجربة الإسلامية واجهت مأزقين: مأزق التراث المؤدلج الذي حوّل النص إلى أداة للهيمنة، ومأزق التغريب الأيديولوجي الذي اختزل الحداثة في نموذج غربي واحد. ويشير إلى أن خطاب الحداثة في الفكر السياسي الإسلامي ظلّ حبيس الثنائية بين «الهوية والانفتاح».
من هنا، يدعو المؤلف إلى بناء فقه سياسي حداثي يرتكز على المقاصد الكلية للشريعة: العدالة، الحرية، الكرامة، والمشاركة، بحيث لا تُفهم الحداثة كقسرٍ خارجي، بل كاستجابة داخلية لحاجات العمران الإسلامي الحديث.
المبحث الثالث: الإسلام وما بعد الحداثة
يتناول المؤلف العلاقة بين الإسلام وما بعد الحداثة باعتبارها جدلية تجاوز لا صدام. ففي حين تنكر ما بعد الحداثة وجود الحقيقة المطلقة، فإن الإسلام يعترف بتعدّد القراءات دون أن يُسقط مركزية الحق. يرى بشاري أن الإسلام لا يناقض روح النقد، بل يحتويها ضمن أفقٍ مقاصدي يجعل النقد وسيلة للبناء لا للهدم.
كما يناقش فكرة «الحداثة الإسلامية» باعتبارها استمرارًا لوظيفة الاجتهاد، فكما كان الإسلام في بداياته ثورةً على الجمود القبلي، يمكنه اليوم أن يكون ثورةً على الجمود الفكري. ويختم هذا الفصل بتأكيد أن الحداثة الإسلامية ليست استنساخًا للغرب، ولا عودة إلى الماضي، بل بناء ثالث بينهما.
الفصل الثالث: ما بعد الحداثة بين إعادة التدوير والانقطاع المعرفي
المبحث الأول: إعادة تدوير الحداثة
في هذا القسم، يتناول بشاري ظاهرة «إعادة تدوير الحداثة» في العالم العربي والإسلامي، أي محاولات تكرار النموذج الغربي بمفردات محلية. يصف هذه العملية بأنها "فخر الصناعة المحلية"، لكنها — في نظره — ما تزال تعتمد على القوالب ذاتها التي صاغها الغرب، مما يجعلها حداثةً شكلية بلا مضمون. ويقترح أن تكون إعادة التدوير المعرفي مشروطة بإنتاج مفاهيم أصيلة نابعة من البيئة الثقافية الإسلامية.
المبحث الثاني: الحداثة كمنتج عالمي بين الحظر والتكييف
يتناول بشاري في هذا المبحث التناقض القائم بين «عالمية الحداثة» و«خصوصية الهويات»، ويرى أن الحداثة تحوّلت من مشروع تحرري إلى آلية هيمنة ثقافية واقتصادية، حيث فُرضت على الشعوب كمعيارٍ للحضارة. ويشبّهها بـ"منتج عالمي محظور التصدير"، أي أنها تُقدَّم للعالم الثالث كسلعةٍ مفرغة من شروطها الثقافية.
ويرى أن الحل لا يكون برفض الحداثة، بل بتكييفها مقاصديًا، أي إعادة قراءتها في ضوء مقاصد الشريعة، بحيث تُفهم الحرية في سياق المسؤولية، والعقل في سياق الإيمان، والتقدم في سياق العدل.
المبحث الثالث: سيناريوهات الممكن والمستحيل
يختم المؤلف كتابه باستشراف مستقبل العلاقة بين الإسلام وما بعد الحداثة من خلال ثلاثة سيناريوهات:
1. سيناريو التجاور: حيث يعيش الإسلام والحداثة في علاقة تكافؤ نقدي دون اندماج أو صدام.
2. سيناريو التجاوز: حيث يسهم الإسلام في تجاوز مأزق ما بعد الحداثة بفضل مرونته القيمية والروحية.
3. سيناريو التنافي: وهو أخطر الاحتمالات، إذ تُستبعد المرجعية الدينية نهائيًا من المجال المعرفي لصالح الإنسان الرقمي.
ويرجّح بشاري السيناريو الثاني بوصفه الأكثر واقعية، معتبرًا أن الإسلام يمتلك «قابلية التجدّد» دون أن يفقد هويته، ما يجعله مرشّحًا ليقدّم للعالم خطابًا جديدًا للمعنى في زمن «الفراغ الوجودي».
الخاتمة: نحو استئناف المشروع الحضاري
يؤكد الدكتور محمد بشاري أن الحداثة لم تعد خيارًا فكريًا بل ضرورة وجودية، لكنها ليست نهاية التاريخ كما توهّم فوكوياما، بل لحظة من لحظات الوعي الإنساني المتجدّد. ومن هنا، فإن المطلوب ليس «تحديث الإسلام»، بل أسلمة الحداثة بمعنى إنسنتها وإخضاعها لمعيار القيم.
يدعو المؤلف إلى مشروع حضاري جديد يقوم على خمس ركائز:
1. العقل المقاصدي الذي يوازن بين النص والواقع.
2. الروح النقدية التي تحوّل الجدال إلى إنتاج معرفي.
3. الحرية المسؤولة التي تصون الكرامة دون أن تذيب الهوية.
4. العدالة الكونية التي تتجاوز حدود القوميات والأديان.
5. الرقمنة الأخلاقية التي تجعل التقنية في خدمة الإنسان لا العكس.
ويختم الكتاب برؤية تفاؤلية ترى أن الإسلام، بما يحمله من قدرة على التجاوز، يمكنه أن يعيد المعنى للعالم الذي أضاع بوصلته. فالحداثة — كما يقول بشاري — ليست وهم اكتمال، وما بعد الحداثة ليست قطيعة نهائية، بل كلاهما مرحلتان في رحلة الإنسان نحو المعنى.
خلاصة تركيبية
إن «الإسلام وما بعد الحداثة» ليس كتابًا في نقد الغرب بقدر ما هو مشروع في إعادة تعريف الذات الإسلامية في مواجهة تحولات العالم. فهو يقترح عبورًا ثالثًا بين حداثة الأدوات وحداثة القيم، بين الفكر النقدي الغربي والاجتهاد الإسلامي، بين الفلسفة والشريعة.
الكتاب يعلن عودة الإسلام إلى ساحة الفكر الكوني لا بوصفه ذاكرةً ماضية، بل باعتباره أفقًا مستقبليًا مفتوحًا على كل المعاني الممكنة.









0 تعليق