في زمنٍ كانت فيه أوروبا تتزين ببريق التقدّم الصناعي، وتخفي تحت أنقاضها توترًا سياسيًا واجتماعيًا متصاعدًا، كتب الأيرلندي جورج برنارد شو (ولد 26 يوليو 1856 - توفي 2 نوفمبر 1950)، نصوصه المسرحية وكأنها نبوءات مبكرة لأزمات القرن العشرين.
فبين سطور الكوميديا اللاذعة، كان شو يرسم خرائط مستقبلٍ يفيض بالتناقضات، حيث يختلط التقدم العلمي بالانهيار الأخلاقي، والعقلانية بالجنون الجماعي للحروب.
لم يكن جورج برنارد شو مجرّد كاتب مسرح، بل كان مفكّرًا يرى الفنّ أداةً للتغيير الاجتماعي، ففي مسرحياته مثل "الإنسان والسوبرمان" و"بيجماليون" و"الأسلحة والإنسان"، نجد نقدًا لاذعًا للنظام الطبقي، وتنبؤًا بصعود الفردانية المتوحشة التي ستطبع القرن العشرين بطابعها المادي البارد.
وبينما كانت أوروبا تمجد الآلة وتؤمن بأن العلم سيخلّص البشرية من الجهل والفقر، حذّربرنارد شو مبكرًا من أن العلم بلا ضمير سيقود إلى كارثة، تنبأ بصعود النزعات الشمولية، وبأن الحروب الحديثة ستُخاض لا من أجل القيم بل من أجل المصالح، وهو ما تحقق باندلاع حربين عالميتين غيّرتا وجه التاريخ.
تميزت كتابات جورج برنارد شو بقدرتها على تحويل الفلسفة إلى دراما، والسخرية إلى سلاح معرفي، فقد استخدم شو الحوار المسرحي ليواجه جمهوره بأسئلة مؤلمة حول العدالة والمساواة والدين والسلطة، مقدّمًا صورة إنسانية مركّبة للعالم الغربي في لحظة تحوّل.
واليوم، بعد مرور أكثر من قرن على تلك النصوص، تبدو أعماله وكأنها مرآة لما نعيشه في القرن الحادي والعشرين: أزمات اقتصادية، صدامات أيديولوجية، وخوف متجدد من التكنولوجيا التي تُهدّد الإنسان نفسه.
لقد فهم شو مبكرًا أن المسرح ليس للترفيه، بل هو منبر للنبوءة والتنوير، وأن الفنان الحقّ لا يصف الواقع فحسب، بل يستشرف مصيره، وربما لهذا لا تزال مسرحيات برنارد شو تُعرض حتى اليوم، كأنها تقول لنا: "لقد حذّرتكم منذ زمن، فهل أنصتم؟"










0 تعليق