إذا ذُكر الإيمان والعلم والشجاعة والعدل، فلابد أن يُذكر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ذلك الرجل الذي جمع الله له من الفضائل ما لم يجتمع في غيره، فكان لسان الحق، وعماد الهدى، ووصي النبي، وقسيم نوره، وواحدًا من أعظم الشخصيات التي أنجبتها الأمة الإسلامية في تاريخها كله.
وُلِد عليٌّ (عليه السلام) في البيت الحرام، بعد عام الفيل بحوالي ثلاثين سنة ونشأ في كنف النبي صلى الله عليه وآله منذ نعومة أظفاره، فغُذِّي بروح الوحي، وشرب من معين النبوة، حتى صار مرآةً صافيةً لنور رسول الله، ومثالًا فريدًا للمؤمن الكامل في عبادته، وعلمه، وعدله، وزهده، وشجاعته.
وصيّ النبي ونور الرسالة:
كان الإمام علي (عليه السلام) أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله من الفتيان، ووقف إلى جانبه منذ البعثة الأولى، فكان سيفه في الميدان، ولسانه في البيان، ويده التي تذود عن الدين. قال النبي صلى الله عليه وآله فيه: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي».
فأثبت له بذلك المقام العالي في القرب والمكانة، وجعله وصيَّه وأمين سره، وباب علمه الذي يُؤتى منه.
ولقد كان علي (عليه السلام) المرجع الأول في العلم والمعرفة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، فكم من فقيهٍ تخرّج من مدرسته، وكم من عالمٍ نهل من بحره الزاخر.
وكان يقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ يكون إلى يوم القيامة إلا أخبرتكم به».
فكان علمه عميقًا كالبحر، وحكمته كالنور الذي لا ينطفئ.
لسان الحق وعماد الهدى:
عُرف الإمام علي (عليه السلام) بجرأته في قول الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، يقيم العدل ولو على نفسه، ويزن الأمور بميزان التقوى لا الهوى. كان يرى في الحكم مسؤوليةً أمام الله لا طريقًا إلى الجاه أو السلطان.
وحين تولّى الخلافة، أقامها على أساس العدل الإلهي، وقال في نهج البلاغة: «والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جلب شعيرةٍ ما فعلت».
تلك كلماته التي تُترجم جوهره الطاهر، وعدله المطلق، وزهده في الدنيا.
قسيم النور ومثال الإيمان:
كان الإمام علي (عليه السلام) قسيم النور مع النبي صلى الله عليه وآله، إذ خرجا من مشكاة واحدة، وتكمّل بهما الدين. فكما كان النبي صلى الله عليه وآله نبي الرحمة والهداية، كان عليٌّ امتدادًا لنوره في الأمة، يحفظ الدين بعلمه، ويصونه بعدله، ويُعيد إلى الناس وعيهم وإيمانهم.
وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: «عليٌّ مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيث دار».
فما أعظمها شهادة! وما أجلّها منزلة أن يكون الإنسان مقياسًا للحق، لا يقاس به أحد.
زهدٌ وعبادةٌ وحكمة:
لم يكن الإمام علي عليه السلام ملكًا ولا زعيمًا دنيويًا، بل كان زاهدًا متواضعًا، يبيت على طوى، ويقضي ليله بين مناجاةٍ ودموع، يناجي ربه بلسانٍ خاشعٍ وقلبٍ منيب.
وقد سُئل عن زهده فقال: «ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمه بقرصيه».
كان يرى الدنيا وسيلةً لا غاية، ويجعل الآخرة هدفه الأكبر، فصار بحقّ قدوة العارفين، وإمام المتقين.
الإمام العادل والخطيب البليغ:
ولقد تجلّت في كلماته البلاغة التي لم يعرف لها الناس مثيلًا؛ فـنهج البلاغة شاهد على عمق فكره وصفاء روحه، إذ جمع بين جمال اللغة ونور الحكمة، بين العقل والروح، حتى صار تراثًا خالدًا تتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيل.
لقد كان الإمام علي عليه السلام نموذج الإنسان الكامل الذي جمع بين العقل والإيمان، بين القوة والرحمة، بين العلم والزهد. فهو باب مدينة العلم، ولسان الحق، وعماد الهدى، ووصي النبي، وقسيم نوره في الدنيا والآخرة.
سلامٌ عليه يوم وُلِد في البيت الحرام، ويوم استُشهد في محرابه، ويوم يُبعث حيًّا مع الأنبياء والصالحين.
قال الدكتور احمد الوائلي مادحا له:
غالى يسارٌ واستخفَّ يمينُ
بك يا لكهنك لا يكاد يبين
تُجفى وتُعبد والضغائن تغتلي
والدهر يقسو تارةً ويلين
وتظلّ أنت كما عهدتُك نغمة
للآن لم يرقى لها تلحين
فرأيت أن أرويك محض رواية
للناس لا صور ولا تلوين
فلا أنت أروع إذ تكون مجردًا
ولقد يضر برائع تثمين
ولقد يضيق الشكل عن مضمونه
ويضيع داخل شكله المضمون
إني أتيتك أجتليك وأبتغي
وردًا فعندك للعطاش معين
وأغض عن طرفي أمام شوامخ
وقع الزمان وأسهن متين
وأراك أكبر من حديث خلافة
يستامها مروان أو هارون
لك بالنفوس إمامةٌ فيهون لو
عصفت بك الشورى أو التعيين
فدع المعاول تزبئر قساوةً
وضراوةً إن البناء متين
أأبا تراب وللتراب تفاخر
إن كان من أمشاجه لك طين
والناس من هذا التراب وكلهم
في أصله حمأ به مسنون
لكن من هذا التراب حوافر
ومن التراب حواجب وعيون
فإذا استطال بك التراب فعاذرٌ
فلأنت من هذا التراب جبين
ولئن رجعت إلى التراب فلم تمت
فالجذر ليس يموت وهو دفين
لكنه ينمو ويفترع الثرى
وترف منه براعمٌ وغصون
بالأمس عدت وأنت أكبر ما احتوى
وعيٌ وأضخمُ ما تخال ظنون
فسألت ذهني عنك هل هو واهم
فيما روى أم أن ذاك يقين
وهل الذي ربى أبي ورضعت من
أمي بكل تراثها مأمون
أم أنه بعد المدى فتضخمت
صور وتخدع بالبعيد عيون
أم أن ذلك حاجة الدنيا إلى
متكامل يهفو له التكوين
فطلبت من ذهني يميط ستائرًا
لعب الغلوُّ بها أو التهوين
حتى أنتهى وعيي إليك مجردًا
ما قاده الموروث والمخزون
فإذا المبالغ في علاك مقصر
وإذا المبذر في ثناك ظنين
وإذا بك العملاق دون عيانه
ما قد روى التاريخ والتدوين
وإذا الذي لك بالنفوس من الصدى
نزر وإنك بالأشد قمين
أأبا الحسين وتلك أروع كنيةٍ
وكلاكما بالرائعات قمين
لك في خيال الدهر أي رؤى لها
يروي السَّنا ويترجم النسرين
هن السوابق شزبا وبشوطها
ما نال منها الوهن والتوهين
والشوط مملكة الأصيل وإنما
يؤذي الأصائِل أن يسود هجين
فسما زمان أنت في أبعاده
وعلا مكان أنت فيه مكين
آلاؤك البيضاء طوقت الدُّنا
فلها على ذمم الزمان ديون
أفق من الأبكار كل نجومه
ما فيه حتى بالتصور عون
في الحرب أنت المستحم من الدِّما
والسلم أن التين والزيتون
والصبح أنت على المنابر نغمة
والليل في المحراب أنت أنين
تكسوا وأنت قطيفةٌ مرقوعةٌ
وتموت من جوع وأنت بطين
وترق حتى قيل فيك دعابة
وتفح حتى يفزع التنين
خلق أقل نعوته وصفاته
أن الجلال بمثله مقرون
ماعدت ألحو في هواك متيمًا
وصفاتك البيضاء حورٌ عين
فبحيث تجتمع الورود فراشة
وبحيث ليلى يوجد المجنون
وإذا سئلت العاشقين فعندهم
فيما رووه مبرر موزون
قسمًا بسحر رؤاك وهي إلية
ما مثلها فيما أخال يمين
لو رمت تحرق عاشقيك لما ارعووا
ولقد فعلت فما ارعوى المفتون
وعذرتهم فلذى محاريب الهوى
صرعى ودين مغلق ورهون
والعيش دون العشق أو لذع الهوى
عيش يليق بمثله التأبين
ولقد عشقتك واحتفت بك أضلعي
جمرًا وتاه بجمره الكانون
وفداء جمرك إن نفسي عندها
توق إلى لذعاته وسكون
ورجعت أعذر شانئيك بفعلهم
فمتى التقى المذبوح والسكين
بدر وأحد والهراس وخيبر
والنهروان ومثلها صفين
رأس يطيح بها ويندر كاهل
ويد تجذ ويجذع العرنين
هذا رصيدك بالنفوس فما ترى
أيحبك المذبوح والمطعون
ومن البداهة والديون ثقيلة
في أن يقاضى دائن ومدين
حقد إلى حسد وخسة معدن
مطرت عليك وكلهن هتون
راموا بها أن يدفنوك فهالهم
أن عاد سعيهم هو المدفون
وتوهموا أن يغرقوك بشتمهم
أتخاف من غرق وأنت سفين
ستظل تحسبك الكواكب كوكبًا
ويهز سمع الدهر منك رنين
وتعيش من بعد الخلود دلالةً
في أن ما تهوى السماء يكون














0 تعليق