"لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة." — نجيب محفوظ
تحل هذا العام الذكرى المئوية لميلاد الفنانة الرائدة جاذبية حسن سري (1925 – 2021)، إحدى أبرز التشكيليات المصريات اللاتي أسهمن في صياغة هوية الفن المصري الحديث، وعبّرن بصدقٍ عن نبض المجتمع وتحولاته السياسية والاجتماعية.

ميلاد في لحظة التحولاتت الكبري
وُلدت جاذبية سري في نوفمبر 1925، في لحظة كانت مصر فيها على أعتاب تحولات كبرى، انعكست بعمق على وعيها وشخصيتها الفنية. نشأت في أسرة تُقدّر الفن وتؤمن بالإبداع، فحظيت بدعم وتشجيع منذ طفولتها.
حصلت على بكالوريوس المعهد العالي للبنات، قسم الفنون الجميلة عام 1948، ثم دبلوم إجازة التدريس في التربية الفنية عام 1949، لتبدأ مشوارها في التعليم والفن معًا. لكن شغفها لم يتوقف عند حدود الوطن؛ إذ سافرت إلى باريس عام 1951 للدراسة مع الفنان مارسيل جروميه، ثم تابعت رحلتها إلى روما ولندن وعدد من الدول الأوروبية وأمريكا اللاتينية، لتغتني تجربتها الفنية بثقافات متعددة.
كانت جاذبية عضوًا فاعلًا في جماعة الفن الحديث، وواصلت البحث الدؤوب في الأساليب والمدارس المختلفة، لتصبح فيما بعد أستاذة أكاديمية خرّجت أجيالًا من الفنانين والفنانات.

التمرد والحرية
تُعد جاذبية سري، إلى جانب زميلتيها تحية حليم ومرجريت نخلة، من الرائدات في الحركة التشكيلية المصرية، لكنها تميزت عنهُن بحريةٍ وتمردٍ لافتين، وبتفاعلٍ حيّ مع الأحداث السياسية الكبرى من الثورة إلى الحرب.
عكست أعمالها أحلام المصريين وأوجاعهم، وصاغت عبر الألوان سيرة الوطن والإنسان في آنٍ واحد. وقد ظلت حتى رحيلها عام 2021 تجسد بحساسية مفرطة العلاقة بين الفنان ولوحته، قائلةً: "لدي علاقة حسية مع اللون."

مئوية جاذبية سري
احتفاءً بمئويتها، أقام جاليري الزمالك ندوة بعنوان «مئوية جاذبية سري»، حضرها عدد كبير من الفنانين والنقاد ومحبي الفنون، من بينهم الكاتب محمد سلماوي والدكتور مصطفى الرزاز، في القاعات التي عرضت لوحات تمثل مختلف مراحلها الفنية.

قال سلماوي في كلمته إن جاذبية بدأت مسيرتها متأثرة بـالواقعية الاشتراكية التي سادت مناخ الستينيات، ثم انتقلت إلى مرحلة المدينة والتجريب التقني، لتخوض بعد ذلك تجربة السيريالية القائمة على "تحريك الجامد وتجميد المتحرك"، قبل أن تميل إلى التجريد أثناء رحلتها إلى تونس، حيث ألهمتها ألوان البحر والصحراء.
وأضاف أن تجربتها في أمريكا اللاتينية دفعتها إلى التعبيرية التجريبية، فازدادت حريةً في استخدام اللون وتكوين الشكل.
ورأى سلماوي أن تفرد جاذبية سري نابع من صدقها الفني وروحها الثورية، واصفًا ضربات فرشاتها الغاضبة والعريضة بأنها "صراع مع السطح الأبيض للوحة"، إذ كانت تعبّر من خلالها عن توترها الداخلي وقلقها الإبداعي، أكثر من تصويرها لموضوع بعينه.

تمجيد الكانفاس
أما الدكتور مصطفى الرزاز فتحدث عن آخر معرض للفنانة، الذي كتب مقدمته بنفسه، مشيرًا إلى أنها بلغت فيه ذروة النضج والحكمة الفنية، حيث استطاعت الإجابة عن السؤال الأزلي لكل فنان: "متى أتوقف عن استكمال اللوحة؟"
ووصف الرزاز هذه المرحلة بعنوان «جاذبية وتمجيد الكانفاس»، معتبرًا أن ما يميز الفنان الحق ليس المهارة الأكاديمية فحسب، بل الثقافة الواسعة والثقة في النفس والقدرة على التمرد على المألوف.
واختتم الرزاز حديثه قائلًا:"الفن هو ثقافة وتمرد وثقة بالنفس، تتجاوز كثيرًا الإتقان المهني. فالشهادة لا تصنع فنانًا، وإنما القرار الداخلي وحده هو الذي يمنح صاحبه تلك الصفة."
الفن كجوهر الوجود
وفي هذا السياق، يستحضر الفيلسوف مارتن هايدجر قوله إن "الفن هو أسمى نشاط بشري، لأنه كاشف لجوهر الأشياء والوجود والإنسان، بصدق وجرأة وجنون وجمال."تبدو هذه العبارة وكأنها كُتبت عن جاذبية سري، التي خاضت صراعها الطويل مع اللوحة، لا لتنتصر عليها، بل لتصالحها وتكشف عبرها جوهر الحياة نفسها.


















0 تعليق