تنظيم داعش يستعيد نشاطه في سوريا قراءة في مشهد الفراغ الأمني وتحوّلات التكتيك

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

وسط تعقيدات المشهد السوري وتبدّل أولويات القوى الدولية تعود التحذيرات من تنامي خطر تنظيم داعش لتتصدر الاهتمام مجددًا مدفوعةً بتقارير غربية تكشف عن استغلال التنظيم للفراغ الأمني والسياسي في مناطق واسعة من البلاد فبعد أعوامٍ من التراجع يبدو أن التنظيم الإرهابي يعيد تموضعه بهدوء مستفيدًا من هشاشة البنية الأمنية ومن تصاعد التناقضات بين القوى المحلية والإقليمية على الأرض السورية

 

ومع أن هذا الظهور لا يشبه مرحلة الخلافة التي عاشها التنظيم بين عامي 2014 و2017 إلا أن خطورته تكمن في كونه عودة صامتة تتغذّى على الغياب

-----------------------------------------------------------------------------------------

 

 

  • الفراغ الأمني والسياسي … بيئة خصبة للعودة

 

منذ مطلع عام 2025 شهدت سوريا تحولًا لافتًا في خريطة الوجود العسكري بعد تقليص القوات الأمريكية المنتشرة في مناطق الشمال الشرقي والبادية وهو تقليص أضعف من قدرة التحالف الدولي على مراقبة الصحراء الواسعة والحدود السورية–العراقية التي لطالما كانت شريان الحياة لخلايا التنظيم

 

ووفقًا لتقرير وول ستريت جورنال نفّذ تنظيم داعش أكثر من 117 هجومًا منذ بداية العام توزعت بين دير الزور والرقة والبادية السورية مستهدفًا نقاطًا عسكرية وحواجز أمنية.. وقوافل لوجستية هذه الأرقام رغم كونها متواضعة مقارنة بسنوات الذروة إلا أنها تعبّر عن نمط متصاعد يؤشر إلى قدرة التنظيم على التحرك بحرية نسبية في مناطق شاسعة خصوصًا تلك التي لا تخضع لسيطرة مباشرة من أي طرف

 

في المقابل فشلت الحكومة السورية الانتقالية التي تتخذ من دمشق مركزًا رمزيًا في بسط سيطرتها على مناطق البادية بينما لا تزال قوات النظام تعاني من نقصٍ في الانتشار والإمداد في المناطق الشرقية أما القوى الروسية والإيرانية فقد ركّزت جهودها على جبهات أخرى أكثر أهمية من وجهة نظرها مثل ريف حلب وإدلب وهكذا وُلدت فجوة أمنية واسعة سمحت لداعش باستعادة أنفاسه

 

---------------------------------------------------------------------------------------

 

  • من الخلافة إلى الخلايا.. تحوّل في الاستراتيجية

 

يدرك التنظيم أن الزمن الذي كان يرفع فيه رايته على مدنٍ كاملة قد انتهى لم تعد لديه القدرة على السيطرة أو الإدارة ولا على جمع الضرائب أو إدارة الموارد كما فعل في الرقة والموصل لذا اتجه نحو تكتيك اللامركزية وهو ما يعني الاعتماد على خلايا صغيرة تتراوح بين أربعة إلى خمسة مقاتلين تُنفّذ هجماتٍ خاطفة باستخدام الدراجات النارية أو سيارات الدفع الرباعي ثم تنسحب سريعًا إلى عمق الصحراء

 

هذه الخلايا لا تسعى إلى الانتصار الميداني بقدر ما تهدف إلى إبقاء العدو في حالة استنزاف دائم إنّها نسخة معدّلة من تكتيكات الذئاب المنفردةالتي استخدمها التنظيم في أوروبا ولكن على نطاق ميداني مفتوح واللافت أن التنظيم بات يدمج بين الخبرة القتالية التي اكتسبها في السنوات الماضية وبين المرونة الجغرافية التي توفرها الصحراء السورية الممتدة حتى الحدود العراقية

 

إضافة إلى ذلك فإن داعش استثمر في تطوير بنيته الاستخباراتية المحلية فصار يجند مقاتلين سابقين أو متعاونين مدنيين لتزويده بالمعلومات عن تحركات القوات في دير الزور والميادين هذه الشبكات تعمل غالبًا وفق نظام عنقودى بحيث لا يعرف العنصر الميداني من هم قادته أو زملاؤه ما يصعب على الأجهزة الأمنية اختراقها

-----------------------------------------------------------------------------------------

 

  • التمويل والاقتصاد الخفي

 

لا يمكن لأي تنظيم مسلح أن يعيش دون موارد وبعد انهيار دولة الخلافة التي كانت تسيطر على آبار النفط والضرائب أعاد داعش بناء شبكات تمويل مصغّرة تقوم على التهريب والجباية غير القانونية والاتجار بالبشر والأسلحة والمخدرات

 

تقول تقارير استخبارية إن التنظيم يعتمد اليوم على مزيج من الاقتصاد المحلي غير الرسمي في مناطق التماس وعلى دعم خارجي يصل عبر وسطاء في العراق وتركيا كما تشير تقديرات إلى استخدامه العملات الرقمية والتحويلات عبر نظام الحوالة لتأمين التمويل بعيدًا عن الرقابة البنكية

 

وهنا تتجلى مرونة التنظيم في التكيّف مع القيود الدولية فبعد أن فقد موارد النفط حوّل نشاطه إلى اقتصاد الظل ليظل قادرًا على تمويل عملياته وإنفاقه على أسر مقاتليه مستفيدًا من انعدام السيطرة الإدارية في كثير من المناطق الحدودية

-----------------------------------------------------------------------------------------

 

  • قوات سوريا الديمقراطية … خط الدفاع الأول

 

في هذا السياق المضطرب تبرز قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بوصفها الطرف الأكثر فعالية في مواجهة التنظيم شمال شرقي البلاد فعلى الرغم من محدودية الدعم الدولي وعمق الانقسامات السياسية في مناطقها نجحت قسد في تنفيذ عمليات نوعية ضد خلايا التنظيم وأحبطت العديد من الهجمات التي كانت تستهدف مراكزها العسكرية

 

لكنّ هذه النجاحات تبقى مهددة بفعل التراجع الأمريكي وغياب التنسيق الاستخباري المتكامل فقسد تجد نفسها بين مطرقة داعش وسندان التوازنات الإقليمية خاصة مع الضغوط التركية والانشغال الروسي والإيراني بملفات أخرى

 

وفي الوقت ذاته … لا يمكن تجاهل التعب الشعبي المحلي من طول أمد الصراع وازدياد الأعباء الاقتصادية ما يجعل بعض القرى الهشة عرضةً لتسلل خلايا التنظيم إليها تحت غطاء “

التهريب أو الحماية القبلية

 

  • التنظيم في الإعلام والفضاء الرقمي

 

العودة الميدانية لداعش ترافقها عودة رقمية محسوبة فالتنظيم بات يدرك أهمية الإثبات الإعلامي للوجود ولو كان محدودًا ميدانيًا فقد لاحظت مراكز مراقبة أنماط الدعاية الجهادية خلال الأشهر الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في بيانات الولاية المركزيةو ولاية الشام إلى جانب مقاطع مصوّرة قصيرة تروّج لعمليات الاستهداف في البادية

 

هذا النمط الجديد من الدعاية يقوم على اختزال الصورة مقاطع قصيرة بصوت منخفض الجودة تُنشر عبر قنوات مغلقة على تليغرام وتُعاد مشاركتها ضمن دوائر صغيرة في محاولة لإعادة بناء الثقة التنظيمية وتذكير الأنصار بأن التنظيم ما زال موجودًا

 

كما يتزايد استخدام التنظيم لأدوات الذكاء الاصطناعي في تزييف الصور والأصوات لإعادة إحياء رموز قديمة أو تخليق شخصيات دعائية جديدة وهو ما يثير مخاوف من موجة جديدة من التحريض الرقمي العابر للحدود

----------------------------------------------------------------------------------------

  • مقاربة تحليلية.. ما وراء الأرقام

 

ما يجري في سوريا لا يمكن اختزاله في عودة عملياتية لتنظيمٍ هُزم ميدانيًا فحسب بل هو انعكاس لفشل  في إدارة ما بعد الحرب فغياب التسوية السياسية وتعدد القوى العسكرية وتناقض المصالح بين الأطراف الإقليمية كلها عوامل تجعل من الأرض السورية بيئة مفتوحة لكل أشكال العنف غير المنضبط

 

داعش لم يعد يحتاج إلى السيطرة على مدينة كي يثبت وجوده بل يكفيه أن يزرع الخوف في طريقٍ صحراوي أو أن يعلن مسؤوليته عن هجوم صغير لتذكير العالم بأنه لم يمت بعد وهذا في حد ذاته تحوّل في تعريف النصر والخسارة بالنسبة للتنظيم

 

في المقابل لا يبدو أن القوى الدولية ولا حتى التحالف الدولي يمتلكان استراتيجية طويلة المدى لمواجهة هذا النمط الجديد من اللامركزية الجهادية إذ لا يمكن للطائرات المسيّرة أو الدوريات العسكرية وحدها أن تواجه فكرًا متجددًا يعيش على الفوضى وينتعش من انقسام خصومه

------------------------------------------------------------------------------------------

  • الإنسان وسط المعركة

 

مجتمع يعيش على الحافة فالعودة المتقطعة لداعش ليست مجرد مؤشر أمني بل هي أيضًا جراح إنسانية مفتوحة في جسدٍ أنهكه الصراع

 

المدنيون في دير الزور والميادين والرقة يعيشون بين خوفٍ من عودة التنظيم وخيبةٍ من غياب الدولة كثيرون يرون أن المعركة ضد داعش لم تكن فقط عسكرية بل معركة فكرةٍ تملأ الفراغ حين يفرغ كل شيء آخر فحين يغيب الأمن وتنعدم الخدمات ويتراجع الأمل، يصبح الخطاب المتطرف أكثر قدرة على التجذّر من أي وقت مضى

----------------------------------------------------------------------------------------

  • اتجاهات ومؤشرات مستقبلية

 

  • تصاعد النمط اللامركزي للهجمات

من المرجح أن يواصل التنظيم استراتيجيته المعتمدة على الخلايا الصغيرة والكمائن المتفرقة خصوصًا في مناطق البادية الممتدة حتى الأنبار العراقية

  • تنامي الاعتماد على التمويل غير التقليدي:

سيزداد اعتماد التنظيم على شبكات التهريب والعُملات المشفرة ما يتطلب تطوير أدوات مالية استخبارية أكثر تطورًا لرصده

 

  • احتمال التمدد عبر الحدود

عودة النشاط في سوريا ستنعكس على المشهد العراقي والأردني إذ إن الحدود بين الدول الثلاث باتت شبه مفتوحة أمام تسلل العناصر

 

  • تراجع الحضور الأمريكي وتداعياته

استمرار تقليص القوات الأمريكية سيؤدي إلى ضعف قدرة التحالف الدولي على تنفيذ عمليات دقيقة ما يمنح التنظيم فرصة أكبر للمناورة

 

  • خطر إعادة التدوير الإعلامي للدعاية الجهادية

من المتوقع أن يرفع داعش من وتيرة دعايته الرقمية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والوسائط القصيرة في محاولة لجذب جيلٍ جديد من المتعاطفين

— العودة الممكنة إلى المدن الريفية:

في حال استمر غياب الخدمات والسلطة المحلية قد يحاول التنظيم استعادة نفوذه في القرى النائية من خلال خطاب الحماية والعدالة الشرعية

 

إن عودة تنظيم داعش إلى الواجهة وإن كانت محدودة في الجغرافيا فإنها عميقة في الدلالة فالمشكلة ليست في عدد الهجمات بقدر ما هي في استمرار البيئة المنتجة لها الفراغ والانقسام 

لقد غيّر التنظيم شكله لكنه لم يُغيّر جوهره فما دام الفراغ قائمًا ستظل البادية السورية مسرحًا مفتوحًا للعبة القط والفأر بين الدولة واللا دولة

 

إنّ قراءة التحولات الراهنة تُظهر أن الخطر لم يعد في عودة داعش بل في تطبيع حضوره كجزءٍ من المشهد السوري المعقّد، الأمر الذي يستدعي مراجعةً شاملة لمقاربات الأمن والسياسة معًا قبل أن تتحوّل العودة الصامتة إلى انفجارٍ جديد

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق