ظلت مصر على مدار سنوات طويلة.. أحد أهم المراكز الإنسانية لاستضافة اللاجئين فى المنطقة، وكان دائمًا بابها محل ترحاب للشعوب التى عانت من الحروب والصراعات، ايمانًا بقيمها التاريخية فى التضامن العربى والإفريقى، والتزامها بالمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق اللاجئين. المشهد الحالى يشهد تحولات جذرية بعد ارتفاع أعداد اللاجئين والمهاجرين المقيمين على الأراضى المصرية إلى ما يتجاوز عشرة ملايين لاجئ حسب التصريحات الرسمية، وذلك فى الوقت الذى يواجه فيه الاقتصاد المصرى تحديات وضغوطا معيشية لا مثيل لها.. تمس المواطن بشكل مباشر فى حياته اليومية.
حديث الشارع المصرى عن ضرورة إعادة النظر فى تنظيم وجود اللاجئين.. فسره البعض على اعتبار أنه رفض إنسانى أو دعوة للتقوقع ورفض وجودهم. القراءة الموضوعية تكشف أنه تعبير عن وعى شعبى فى الفرق فى الحديث بين الكرم والمسؤولية، وبين واجب الدولة الإنسانى.. الذى لا يكون فى كل الأحوال على حساب حق مواطنيها فى حياة كريمة ومستقرة.
المؤكد، أن حجم التدفقات البشرية خلال السنوات الأخيرة قد تسبب فى ضغط غير مسبوق على الموارد الوطنية والخدمات العامة والأمن العام. وعلى سبيل المثال: فى سوق العقارات، ساهم الطلب المتزايد من بعض اللاجئين القادرين ماديًا فى رفع أسعار الإيجارات والتمليك داخل العديد من المدن والمناطق بشكل مستفز، وهو ما انعكس مباشرة على المواطنين المصريين، خاصة الشباب والأسر محدودة الدخل. كما شهدت الأسواق الغذائية فى المقابل، ارتفاعًا فى الطلب على السلع الغذائية الأساسية، مما ساهم فى زيادة الأسعار وتراجع القدرة الشرائية. وبناء عليه، ترتب على مشاركة اللاجئين فى بعض قطاعات العمل غير الرسمية، منافسة مباشرة مع العمالة المصرية، فى ظل غياب تنظيم قانونى واضح يحدد نطاق عمل اللاجئ بما لا يضر بسوق العمل المحلى. ما سبق، لا يعنى رفضًا لوجود اللاجئين، بل يتطلب مراجعة جادة لإدارة الملف وفق رؤية متكاملة تراعى مصلحة الدولة وتحافظ على كرامة الجميع.
وقد برزت أبعاد اجتماعية وثقافية اخرى لا يمكن تجاهلها. الاختلاف فى العادات واللغة وسلوك الحياة اليومية، ترتب عليه بعض التوترات وسوء الفهم داخل المجتمع المصرى، خاصة مع حدوث تجاوزات أمنية من بعض اللاجئين. هذه الظواهر لا ينبغى أن تتحول إلى خطاب رفض وتمييز، المسؤولية هنا مشتركة بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع المدنى لترسيخ ثقافة التعايش الإنسانى بضوابط قانونية عادلة.
اللاجئين فى نهاية الأمر قضية إنسانية لكونهم ضحايا نزاعات لم يصنعوها أو يتسببوا فيها. أعلم جيدًا أن الواجب الإنسانى يحتم أن يكون التعامل معهم من منظور أخلاقى، وليس من الجانب الاقتصادى فقط، بشرط ألا يأتى هذا التعاطف على حساب الأمن الاجتماعى أو الاستقرار الوطنى للأسر والعائلات المصرية.
تنص اتفاقية جنيف 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، والبروتوكول الملحق بها 1967 على التزام الدول بتوفير الحماية الأساسية وعدم إعادة اللاجئ قسرًا إلى مناطق الخطر. ولكنها فى نفس الوقت، تمنح الدول المضيفة الحق الكامل فى تنظيم وجود اللاجئين داخل أراضيها بما ينسجم مع أمنها القومى وقدراتها الاقتصادية. وهو مبدأ يتسق مع القانون الإنسانى الدولى الذى يوازن بين حقوق الإنسان وحماية سيادة الدول. وهو ما يعنى أن لمصر الحق الكامل فى إعادة تقييم سياساتها تجاه اللاجئين، سواء من حيث المدة الزمنية للإقامة أو نطاق الحقوق الاقتصادية والإنسانية بدون إخلال بالالتزامات الدولية أو انتهاك لمبدأ الكرامة الإنسانية.
معالجة هذا الملف المعقد، تتطلب رؤية استراتيجية تجمع بين المرجعية الإنسانى والثوابت السيادية، والتى يمكن تلخيصها فى:
1- إعادة تنظيم الوضع القانونى للاجئين عبر آليات واضحة تحدد مدد الإقامة، وحقوق العمل، ونطاق الخدمات المقدمة.
2- تعزيز الشراكة مع الأمم المتحدة والجهات المانحة لضمان حصول مصر على دعم مالى وتقنى مقابل استضافتها لهذا العدد الكبير.
3- تحفيز استثمارات تنموية موجهة إلى المحافظات التى تضم نسبًا مرتفعة من اللاجئين، لتحويل هذا الضغط البشرى إلى فرصة اقتصادية.
4- دمج تدريجى منضبط يقوم على تعليم اللغة والثقافة المصرية للاجئين لتقليل الفجوات الاجتماعية دون المساس بالهوية الوطنية.
5- حملات توعية لإعادة صياغة الخطاب العام من الاتهام والرفض إلى المشاركة والفهم، مع احترام الحس الوطنى ومخاوف المواطن المصرى.
من المهم التأكيد على التمييز بين الاستضافة المؤقتة فى إطار أزمات إنسانية عابرة، وهى التزام قانونى وأخلاقى وإنسانى، وبين الإقامة الدائمة التى ينتج عنها تغييرات ديموجرافية واقتصادية بعيدة المدى. الأولى تندرج ضمن مقتضيات الواجب الإنسانى، أما الثانية فتحتاج إلى سياسات واضحة تحكمها المصالح الوطنية وتستند إلى اتفاقيات ثنائية أو دولية محددة المدة والمضمون.
نقطة ومن أول الصبر..
المصريون بطبعهم التاريخى.. لا يغلقون بابهم فى وجه أحد، ولكن الوعى الوطنى.. يحتم وجود إدارة أكثر توازنًا لحفظ كرامة اللاجئ، والاستقرار والأمان للمواطن المصرى. الضيافة ليست تنازلًا عن الحقوق، والسيادة لا تعنى التخلى عن الواجب الإنسانى. وسيظل الحل الأمثل هو أن تمارس مصر دورها الإقليمى والإنسانى بعقل الدولة ومسؤولية الضمير، وفق مرجعية القانون
الدولى الإنسانى، لتظل كما كانت دائمًا وطنًا كريمًا لا يضيع فيه العدل ولا يتخلى عن الرحمة.
0 تعليق