حسن حنفي... رحلة عقل عربي في مواجهة الاستلاب الثقافي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

«الفيلسوف لا يعيش في وئام مع عصره، بل في خصومة معه من أجل المستقبل».. بهذه الكلمات وضع الدكتور حسن حنفي (23 فبراير 1935 – 21 أكتوبر 2021) حجر الأساس لمشروعه الفكري المتكامل. لم يكن مجرد أستاذ للفلسفة في جامعة القاهرة، بل كان جسرًا بين التراث والحداثة، بين الشرق والغرب، بين الإيمان والعقل، في زمنٍ كانت فيه الأسئلة أكثر من الإجابات.

رحلته من قاهرة الخمسينيات إلى باريس السبعينيات لم تكن انتقالًا جغرافيًا فحسب، بل كانت رحلة فكرية عميقة في جوهر الهوية العربية وسؤالها الدائم عن العلاقة بالهيمنة الثقافية الغربية؛ وهو ما نتتبعه في السطور التالية:

ولد حسن حنفي في فترة كانت مصر تشهد حراكًا فكريًا وسياسيًا واسعًا بين تيارات القومية واليسار والدين والإصلاح. تفتّح وعيه في جامعة القاهرة التي كانت تعج بأسماء لامعة مثل زكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وفؤاد زكريا. هناك بدأ اهتمامه المبكر بالفكر الفلسفي وبسؤال النهضة: لماذا تخلّفنا وتقدّم غيرنا؟

كان الهمّ الأساسي لديه هو كيف نعيد بناء الذات العربية من الداخل، لا بالانغلاق في الماضي ولا بالذوبان في الغرب. ومن هنا بدأ مساره الفكري الذي سيحمله لاحقًا إلى قلب أوروبا، ليواجه من هناك "الآخر" وجهًا لوجه.

في عام 1966، سافر حنفي إلى باريس لاستكمال دراسته العليا في جامعة السوربون، وهناك نال الدكتوراه عن أطروحته الشهيرة "الظاهريات والتأويل: منهج لفهم التراث". في فرنسا، وجد نفسه أمام مدرسة فلسفية غربية متجذّرة في تاريخ من النقد والعقلانية، فكان عليه أن يختبر أفكاره في مواجهة فلسفات كبرى من ديكارت إلى هوسرل وسارتر.

لكن حنفي لم يذهب ليكون تلميذًا في مدرسة غربية، بل ذهب ليحاورها من موقع الندّية. في مقالاته ومؤلفاته اللاحقة، تحدث كثيرًا عن تجربة الاغتراب الثقافي التي يعيشها الطالب العربي في الغرب، حيث يُراد له أن يتقمص عقل الآخر وينسى جذوره. وهنا تشكلت لديه فكرة "الاستلاب الثقافي" كواحدة من أهم قضاياه الفكرية: كيف يمكن للعقل العربي أن يتعلم من الغرب دون أن يفقد ذاته؟.

عند عودته إلى القاهرة، وضع حسن حنفي خلاصة تجربته في مشروعه الكبير "التراث والتجديد" الذي دعا فيه إلى قراءة جديدة للتراث الإسلامي برؤية معاصرة. لم يكن التراث عنده مجرد ماضي مقدس، بل مادة حية يمكن إعادة بنائها وفق احتياجات الحاضر.

في هذا المشروع، حاول أن يجيب على سؤالين متلازمين: “كيف نُحدّث تراثنا دون أن نُلغيه؟، وكيف نواكب العصر دون أن نفقد هويتنا”؟.

كان يرى أن النهضة الحقيقية تبدأ من التحرر من الاستلاب، أي من حالة التبعية الفكرية التي تجعلنا نستهلك ما ينتجه الآخر دون وعي أو نقد. لذلك كانت دعوته دائمة إلى استعادة الثقة في الذات الحضارية العربية والإسلامية، مع الانفتاح النقدي على الفكر الإنساني كله.

لم يكن حنفي أكاديميًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان منخرطًا في هموم المجتمع والسياسة والفكر العام. كتب في قضايا التحرر الوطني، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، وشارك في سجالات فكرية حول الدين والعلمانية، والإسلام السياسي، وموقف المثقف من السلطة.

كثيرون اعتبروا لغته صعبة ومصطلحاته فلسفية، لكنها كانت في جوهرها محاولة لبناء وعي نقدي جديد. كان يرى أن مهمة المثقف ليست تكرار الأسئلة القديمة، بل توليد الأسئلة الجديدة التي تفتح أفقًا نحو المستقبل.

أثار حسن حنفي جدلًا واسعًا في الأوساط الفكرية العربية؛ فبين من رأى فيه مجددًا كبيرًا للفكر الإسلامي، ومن اتهمه بالمراوحة بين العقلانية والمثالية، ظلّ الرجل وفيًا لقناعته بأن الفكر لا يتطور إلا بالصدام مع المألوف. 

رحل حسن حنفي عام 2021، لكنه ترك خلفه عشرات المؤلفات والمشروعات الفكرية مثل "من العقيدة إلى الثورة"، و"مقدمة في علم الاستغراب"، و"الدين والثورة في مصر"، وهي نصوص لا تزال تُقرأ ويُعاد اكتشافها في ضوء التحولات الراهنة.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق