يحمل مسار العائلة المقدسة قيمة دينية وتاريخية نادرة، فهو لا يروي مجرد قصة هروب من الاضطهاد، بل يخلد رحلة نور إلهي مر على أرض مصر فأنارها ببركة لا تنطفئ.
حين لجأت العائلة المقدسة إلى مصر هربًا من بطش الملك هيرودس، تحولت أرض الكنانة إلى مسرح إلهي تلتقي فيه السماء بالأرض، وتبدأ قصة استثنائية تروى من جيل إلى جيل، شاهدة على مكانة مصر كأرض اختارها الله ملجأ لطفله المبارك.
مشروع إحياء المسار: من ترميم الطرق إلى بعث الذاكرة
في هذا السياق، أطلقت الدولة مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة، كواحد من أضخم المشروعات القومية ذات الأبعاد المتعددة: روحية، سياحية، ثقافية وتنموية.
وأكد الباحث د. بيشوي دميان، أن المشروع يتجاوز فكرة الحفاظ على الآثار، بل يسعى إلى إحياء الوجدان الجمعي، وتذكير المصريين والعالم بأن أرض مصر كانت دومًا مأوى للقداسة والرحمة.
وأضاف أن العائلة المقدسة قطعت مسافة تقدر بـ 3,000 كيلومتر على مدار أكثر من ثلاث سنوات، بدءًا من رفح بشمال سيناء، ومرورًا بعدد من المدن والقرى، حتى وصلت إلى جبل قسقام في أسيوط، حيث استقرت في المغارة التي أصبحت اليوم "دير المحرق"، أحد أهم المزارات المسيحية في الشرق الأوسط.

المسار الروحي: درب حج وتأمل لكل من يطلب البركة
من الناحية الدينية، يُعد مسار العائلة المقدسة دربًا للحج والتأمل، يحمل بين طياته بركة سماوية تمس القلب قبل العين.
فمن "شجرة مريم" في المطرية، إلى كنيسة "أبو سرجة" في مصر القديمة، وصولًا إلى "مغارة دير المحرق" في أسيوط، تتوزع المحطات المقدسة التي تحوّلت إلى مواقع ذات روح حية تشع بالسكينة، وتدعو كل زائر إلى اختبار معنى السلام الحقيقي.

بعد اقتصادي وسياحي: التنمية من قلب القداسة
لا يقف المشروع عند حدود التأمل الروحي، بل يمتد ليخلق واقعًا اقتصاديًا جديدًا.
إذ يتحول مسار العائلة المقدسة إلى مقصد عالمي للحج المسيحي والسياحة الدينية، ما ينعكس على تنشيط الاقتصاد المحلي، وتوفير فرص عمل في القرى والمدن التي يمر بها، من خلال دعم الحرف التراثية، وتطوير البنية التحتية، والترويج للمنتجات اليدوية المرتبطة بالهوية القبطية.

رسالة سلام من أرض الملجأ إلى العالم
يرى دميان أن العائلة المقدسة تركت في مصر إرثًا يفوق المواقع الأثرية، بل شكلت في الوعي الشعبي طقوسا وتسابيح وأعيادا لا تزال حية، أبرزها "عيد دخول المسيح أرض مصر"، الذي يحتفل به الأقباط في 1 يونيو من كل عام.
وما زال هذا التراث يتناقل في البيوت والكنائس، كدليل على محبة المصريين للسلام واحترامهم للقداسة.
ويؤكد المشروع أن مصر، التي احتضنت العائلة المقدسة في طفولة المسيح، ما زالت قادرة على احتضان العالم كله برسالة محبة وتسامح تتجاوز حدود الزمان والمكان.
مسار العائلة المقدسة.. بين الإيمان والتنمية
مشروع إحياء مسار العائلة المقدسة ليس مجرد خطة لترميم المواقع أو تنشيط السياحة، بل هو شهادة حياة جديدة تُكتب لمصر، كأرض للأنبياء ومأوى للمقدسين.
كل خطوة على هذا المسار هي دعوة مفتوحة لكل إنسان ليختبر في قلبه معاني الإيمان والرجاء، وكل موقع فيه يحكي قصة حب إلهي لأرض أكرمها الله بالسلام.
ومن خلال هذه المبادرة، تستعيد مصر صورتها كأرض حضارية وروحية، تقدم للعالم نموذجًا فريدًا يربط بين القداسة والتنمية، بين الماضي المقدّس والحاضر المتجدد.
0 تعليق