في ظل الطفرة الرقمية والتقدم التكنولوجي الذي يشهده العالم، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية لكثير من الأسر، فالشهرة لم تعد حكرا على منصة إعلامية ولا كاميرا محترفة، فقد ظهر نوع جديد من "المؤثرين" يُعرف بـ يوتيوبرز العائلة.
هذه الفئة لا تعتمد على نجومية فردية، بل تستمد محتواها من الحياة اليومية لأفراد الأسرة، حيث تتحول وجبة الإفطار، أو لحظة مرض الطفل، أو حتى شجار بسيط بين الأشقاء إلى "محتوى" يُعرض أمام الآلاف وربما الملايين من المتابعين، إذ تقوم بعض الأسر بتوثيق تفاصيل حياتهم اليومية ومشاركتها مع الجمهور من خلال فيديوهات تتناول الحياة العائلية، ومواقف الأطفال، ونمط العيش، بهدف الترفيه أو تحقيق الشهرة والعائد المالي، وهي الظاهرة التي تُثير التساؤلات حول تأثيرها على الخصوصية والصحة النفسية ومستقبل الجيل الجديد.
مشاركة الأطفال في المحتوى العائلي: براءة تُستغل
من أبرز ما يُميز ظاهرة يوتيوبرز العائلة هو الاعتماد على الأطفال كعنصر جذب للمشاهدات، مثل مشاهد الطفل وهو يرقص، أو يبكي، أو يخطئ، أو يرد على والديه بطريقة مضحكة، كلها تتحول إلى لحظات قابلة للتصوير والنشر على اليوتيوب أو تيك توك.
انتهاك لحقوق الطفل
في هذا السياق، أكدت أمل سلامة، عضو لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب، أن استغلال الأطفال في محتوى لا يتناسب مع عمرهم هو "انتهاك مباشر لحقوقهم"، فالطفل في عمر العامين والثلاثة أعوام أو أقل لا يملك الوعي الكافي ليقرر ما إذا كان يرغب في الظهور أمام الملايين من الأشخاص.
كما أشارت “سلامة” إلى أن مشاركة الطفل في هذه الفيديوهات، قد تُلحق أضرارًا نفسية وجسدية به إذ أنه يلحق أضرارًا بالعينين والمخ وأيضًا التركيز، ناهيك عن احتمال تحوله إلى مدمن على الهاتف أو الكاميرا.

وأوضحت عضو مجلس النواب أنه من الضروري وضع ضوابط صارمة لاستخدام الأطفال للتكنولوجيا، فلا يجب أن يتجاوز وقت استخدام الهاتف أو الأجهزة الذكية أكثر من نصف ساعة يوميًا، خاصة في المراحل العمرية المبكرة.
ورغم التحذيرات المتكررة من الخبراء والمهتمين بحقوق الطفل، كشفت البرلمانية، أنه لا يوجد حتى الآن، إطار قانوني حاسم في مصر ومعظم الدول العربية يُنظم ظهور الأطفال على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الغياب القانوني يترك الباب مفتوحًا أمام الاستغلال العشوائي وغير المنضبط، وأوضحت (سلامة) أنها ستطرح هذا الملف للمناقشة تحت قبة البرلمان.
وفيما يخص صفحات التواصل الاجتماعي المرتبطة بفيديوهات الأطفال، أكدت (سلامة) أن وجود تلك الصفحات يدل على عدم التوعية في الاعلام والمؤسسات الأهلية، لأن الطفل يفقد تركيزه ولا ينتبه في دراسته عندما يتجه إلى هذا الطريق، وهو ما يمثل خطورة عليه، مشددة على أن مسؤولية هذا الأمر تقع "كاملة" على عاتق الأسرة وتربيتها لأبنائها.
واختتمت حديثها للدستور بأنه في حالة إذا كان الطفل سيصنع محتوى خفيف وأخلاقي، وفي حالة صنع فيديوهات مضحكة بها دعابة فيجب ألا يقل سن هذا الطفل عن 12 عام مع الحرص على عدم استخدام ألفاظ أو محتويات خارجة.
الطفل في عصر الكاميرا: بين اللعب والتمثيل القسري
في ذات السياق، فرّق دكتور علي بهنسي، استشاري الطب النفسي وعلاج الادمان وطب نفسى الأطفال، بين ثلاثة مستويات من مشاركة الأطفال في التصوير:
- المستوى الأول: صور عادية تُشارك مع العائلة والأصدقاء، مثل صورة طفل في عيد ميلاده.
- المستوى الثاني: صور مع أحد أفراد الأسرة في مناسبات مختلفة، وهنا قد تظهر مشاكل إذا لم يكن الطفل مرتاحًا مع هذا الشخص.
- المستوى الثالث: تصوير الطفل في مشاهد تمثيلية أو مضحكة، حيث يُطلب منه أداء أدوار معينة بهدف الترفيه أو جمع المشاهدات.
وأكد “بهنسي” أن النوع الثالث يُعتبر استغلالًا عاطفيًا وجسديًا، وقد يُعرّض الطفل لأضرار نفسية عميقة يصعب علاجها لاحقًا. كما أنه مخالف للقانون، ويجب التعامل معه بجدية.
وتابع لـ “الدستور” أنه من المثير للقلق أن كثيرًا من الأسر لا تدرك أن الصور والفيديوهات التي تُنشر على الإنترنت تبقى محفوظة للأبد، بل قد تُستخدم لاحقًا بطرق لم يتخيلها أحد.

وأوضح (بهنسي) أيضَا، أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تحليل الصور لتحديد أماكن تواجد الطفل، ومعرفة مزاجه، وحالته النفسية، وحتى تفضيلاته الشخصية، ومع تراكم هذه البيانات، يصبح من السهل للغاية استهداف الطفل لاحقًا، سواء في الإعلانات أو حتى في محاولات الاختراق، فعلى سبيل المثال يمكن استخدام صورة منشورة لطفل في لحظة حزن، أو مع شخص لا يحبه، كمصدر للألم أو التنمر مستقبلًا.
وأضاف “بهنسي” أن وضع صور للأطفال على السوشيال ميديا يُزود وسائل التواصل الاجتماعي بالمعلومات التي تستفيد منها برامج الذكاء الاصطناعي مستقبلًا وبالتالي يصبح من السهل اختراقه والسيطرة عليه من خلال ذاكرته ومشاعره وعواطفه وتحليل الصورة وتحليل الشخصية.
وأشار استشاري الطب النفسي وعلاج الادمان، إلى أن منظمة الصحة العالمية حذرت من تعرض الأطفال للسوشيال ميديا أو عرض صورهم على وسائل التواصل الاجتماعي وخرق خصوصيتهم.
وأنهى حديثه لـ “الدستور” بمطالبة القانون بمنع الأطفال من تصوير فيديوهات من خلال البدء في سن قوانين لمنع استغلال الأطفال إلكترونيًا للحصول على مشاهدات وأرباح لأن ذلك يؤثر تأثير مباشر على نفسية الطفل وثقته في نفسه وثقه في أهله، ويهدد نظرته لذاته ولأهله وللحياة بأكملها.
الظاهرة من منظور اجتماعي: اختلاط العام بالخاص
وتحدثت الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع السياسي والعسكري، أيضًا للدستور عن الظاهرة من زاوية اجتماعية، فقد رأت أن "يوتيوبرز" العائلة يعكس خللًا في فهم الخصوصية، فبينما كانت الصور العائلية في الماضي تُستخدم للتوثيق والتذكر، أصبحت اليوم وسيلة للعرض والاستعراض، مما جعل الحياة الخاصة تُعرض على العامة دون حواجز.

وأشارت إلى أن هذا السلوك يؤدي إلى إدخال الجمهور في عمق الحياة العائلية للأفراد، وهو ما يعد اختراقا للخصوصية ويحول المنزل من مكان للراحة والخصوصية إلى "استوديو" للعرض المستمر، موضحة أن أحد أخطر آثار ظاهرة "يوتيوبرز العائلة" هو تعرض أفراد الأسرة، خصوصًا الأطفال، للتنمر الإلكتروني، فالمشاهدون قد يعلقون على شكل الطفل، أو صوته، أو طريقة حديثه، أو حتى ملابسه، وهذه التعليقات السلبية تُخزن في ذاكرة الطفل وتؤثر على ثقته بنفسه، وعلى علاقته بأسرته التي سمحت بهذا التنمر.
وأضافت أن الأطفال الذين يظهرون في الفيديوهات قد يشعرون لاحقًا بالخجل أو الندم على ما تم نشره عنهم دون إذنهم، وفي كثير من الأحيان، لا يُتاح لهم خيار رفض الظهور، موضحة أن من أكثر الفئات إقبالًا على هذا النوع من المحتوى هم الأصغر سنًا أو أولئك الذين يبحثون عن الاعتراف الاجتماعي أو يشعرون بأنهم مهمشون، فهُم يرون في هذه المنصات وسيلة للتعبير عن الذات، وكسب الشهرة، وربما تعويض النقص الذي يشعرون به في المكانة الاجتماعية.
على الجانب الآخر، ترى العائلات ذات المكانة الاجتماعية العالية أو الوعي الثقافي أن هذه الظاهرة لا تناسبها، لذا فهي تتجنب الظهور الشخصي والتوثيق اليومي للحياة العائلية.