من القاهرة إلى باريس.. استراتيجية تصدير المعركة ضد الإخوان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

منذ عام 2013، تبنّت الدولة المصرية استراتيجية شاملة لمواجهة تنظيم الإخوان، لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت آثارها لتعيد تشكيل نظرة المجتمع الدولي، وعلى رأسه أوروبا، لهذا التنظيم الذى لطالما استفاد من صورة «الإسلام المعتدل» فى الغرب. هذه الاستراتيجية التى جمعت بين الحسم الأمنى والتحرك الدبلوماسى والخطاب الإعلامى والتفكيك الفكري، ساهمت فى كشف الواجهة الناعمة للجماعة، وتسليط الضوء على ارتباطاتها بشبكات العنف والتطرف داخل وخارج الحدود.
فى قلب هذا التحول الأوروبي، برزت فرنسا كنموذج بارز للاستجابة للمعطيات المصرية، متبنية مقاربة أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي، ومستخدمة خطابًا قانونيًا ومجتمعيًا يناهض ما تسميه بـ«الانفصالية الإسلاموية».

 ومثّل التعاون الأمنى والمعلوماتى مع مصر ركيزة أساسية فى هذا التحول، ما أفضى إلى تشديد الرقابة على الجمعيات والمراكز الإسلامية المرتبطة بالجماعة، وإعادة تقييم الوجود الإخوانى فى الفضاء الأوروبى العام.


المواجهة الأمنية والقانونية

منذ عزل الرئيس الأسبق محمد مرسى فى يوليو ٢٠١٣، شنت الأجهزة الأمنية المصرية حملة موسعة ضد تنظيم الإخوان المسلمين استهدفت هياكله التنظيمية فى مختلف المحافظات. تركزت الحملة على القيادات العليا والوسطى، باعتبارهم العصب الرئيسى فى إدارة العمليات والتواصل بين القواعد التنظيمية والقيادة المركزية، وقد أُلقى القبض على مرشد الجماعة محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر، وعدد كبير من أعضاء مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة، ما أدى إلى شلل كبير فى الجهاز التنفيذى والسياسى للتنظيم.
كما تم تنفيذ عمليات أمنية دقيقة ضد ما عُرف بـ«اللجان النوعية» التابعة للإخوان، والتى كانت مسئولة عن أعمال العنف والتخريب بعد فض اعتصامى رابعة والنهضة. أدت هذه العمليات إلى تفكيك عدد من الخلايا النشطة، وضبط كميات من الأسلحة والمواد المتفجرة، الأمر الذى ساعد فى تقليص قدرة الجماعة على تنفيذ عمليات إرهابية منظمة داخل المدن الكبرى.
وفى ٢٥ ديسمبر ٢٠١٣، أعلنت الحكومة المصرية جماعة الإخوان المسلمين تنظيمًا إرهابيًا رسميًا، فى خطوة شكلت تحولًا كبيرًا فى طريقة تعامل الدولة مع الجماعة. جاء هذا التصنيف بعد سلسلة من العمليات الإرهابية التى تلت فض اعتصامى رابعة والنهضة، والتى اتُّهمت فيها الجماعة بالتحريض والمشاركة، ومنها تفجير مديرية أمن الدقهلية. هذا التصنيف أتاح للسلطات استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لملاحقة المنتمين إلى الجماعة والمروجين لأفكارها وممولى أنشطتها.
تبعات هذا التصنيف لم تكن فقط قانونية، بل شملت إجراءات تنفيذية حاسمة مثل تجميد الأصول المالية للجماعة، وحظر أنشطتها فى المجال العام، ومنع عقد الاجتماعات أو إقامة فعاليات تحت أى مسمى ذى صلة بها. كما استخدم التصنيف فى مذكرات التوقيف الدولية بحق بعض قيادات الإخوان المقيمين فى الخارج، رغم اختلاف استجابة الدول المضيفة لتلك المطالب.
المواجهة السياسية والدستورية
فى أعقاب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، اتخذت الدولة خطوات قانونية لتفكيك الأذرع السياسية لجماعة الإخوان، وعلى رأسها «حزب الحرية والعدالة»، الذى كان الواجهة الرسمية للجماعة فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية بعد ثورة يناير. وفى عام ٢٠١٤، أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمًا نهائيًا بحل الحزب ومصادرة مقاره وأصوله المالية، بعد إثبات تورطه فى دعم أنشطة الجماعة المحظورة والترويج لأهدافها السياسية والدينية على حساب الدولة الوطنية.
أهمية هذا القرار لم تقتصر على إنهاء وجود الحزب قانونيًا، بل جاءت كرسالة سياسية واضحة بأن النظام الجديد لن يسمح بإعادة إنتاج الجماعة تحت غطاء حزبى أو قانوني. كما سعت الدولة من خلال هذا الإجراء إلى سد الطريق أمام أى محاولات للعودة إلى المشهد السياسى عبر تشكيل كيانات بديلة، أو استخدام واجهات حزبية أخرى تخفى الأيديولوجيا الإسلاموية ذاتها.
وفى إطار إعادة هيكلة النظام السياسى والدستورى بعد عام ٢٠١٣، تم تضمين نصوص صريحة فى دستور ٢٠١٤ تمنع تأسيس الأحزاب السياسية على أساس دينى أو طائفي. وقد رافق هذا الحظر تعديلات قانونية أغلقت المجال أمام عودة أى كيان يحمل مشروعًا سياسيًا يرتكز على الدين، وهو ما استهدف بالأساس تقليص نفوذ جماعة الإخوان ومنع تكرار نموذج "الحرية والعدالة" أو غيره من الأحزاب المشابهة التى قد تتستر خلف شعارات دينية لتحقيق مكاسب سياسية.
هذا التعديل الدستورى لم يكن فقط موجّهًا للإخوان، بل كان جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة ضبط المجال العام على أسس مدنية وعقلانية، بعد فترة من الفوضى السياسية والتوظيف الدينى للخطاب العام. وقد ساعد ذلك فى تقليص قدرة الجماعة على التسلل إلى مؤسسات الدولة أو التأثير فى الحياة البرلمانية من خلال حلفاء أيديولوجيين.
كما أدركت الدولة المصرية أن قوة جماعة الإخوان لا تكمُن فقط فى نشاطها السياسي، بل فى شبكتها الاجتماعية والخدمية الواسعة التى كانت تستخدمها لكسب تأييد شعبى وتجنيد الأعضاء، مثل الجمعيات الخيرية والمراكز الصحية والمدارس الخاصة.

 و بدأت الأجهزة الرقابية فى مراجعة وتقييم أداء هذه الكيانات، وتم حل أو تجميد أنشطة عدد كبير من الجمعيات المرتبطة بالجماعة، وتحويل الإشراف عليها إلى وزارات الدولة مثل التضامن الاجتماعي.
هذا العزل لم يكن أمنيًا فقط، بل كان جزءًا من خطة لتجفيف المنابع الاجتماعية للجماعة وقطع الطريق أمام قدرتها على إعادة بناء نفوذها من خلال تقديم الخدمات للمواطنين. كما تم تدشين منظمات بديلة مدعومة من الدولة لسد الفراغ الذى تركته تلك الجمعيات، مما ساعد على إعادة هيكلة العلاقة بين المواطن والدولة، وتقليص اعتماد الجمهور على الإخوان كمصدر للخدمات أو الدعم الاجتماعي.


المواجهة الإعلامية

منذ ٢٠١٣، أولت الدولة المصرية أهمية قصوى للإعلام كأداة استراتيجية فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين، حيث عملت وسائل الإعلام الرسمية والخاصة على تفكيك الخطاب الدعائى للجماعة وفضح تناقضاته.

 ركّزت التغطيات والبرامج الحوارية على كشف التباين بين خطاب الجماعة فى العلن، الذى يروّج للتسامح والديمقراطية، وبين ممارساتها على الأرض التى اتسمت بالعنف والإقصاء والانتهازية السياسية. كما جرى إبراز العلاقة بين الجماعة والتنظيمات الإرهابية فى سيناء، وتسليط الضوء على التحالفات المشبوهة مع كيانات متطرفة فى الداخل والخارج.
وساهمت هذه الحملات الإعلامية فى كسر الهالة القدسية التى أحاطت بالجماعة لعقود، خاصة فى أوساط بعض الفئات التى كانت ترى فى الإخوان نموذجًا للإسلام السياسى "المنضبط".

 كما استُخدم الإعلام لإعادة تشكيل الوعى الجمعى حول حقيقة التنظيم، وتقديم رواية الدولة عن أحداث ما بعد ٣٠ يونيو، بما فى ذلك فض اعتصامى رابعة والنهضة، على أنها مواجهة مع مشروع سياسى دينى لا معارضة سلمية.

كما أطلقت الدولة، بالتعاون مع الإعلاميين والمثقفين، سلسلة من الحملات التوعوية التى هدفت إلى كشف أخطار الفكر الإسلاموى على الأمن القومي، ووحدة المجتمع، ومدنية الدولة. تنوعت هذه الحملات ما بين البرامج الوثائقية، والإعلانات التوعوية، والمقالات التحليلية، التى تناولت المفاهيم المغلوطة التى يروّج لها التنظيم، مثل "الحاكمية"، و"التمكين"، و"الجهاد السياسي". 

وكان التركيز منصبًا على أن جماعة الإخوان لا تمثل الإسلام، بل تستخدمه كوسيلة للوصول إلى السلطة.
كما شجعت الدولة على إنتاج أعمال درامية وسينمائية تناولت تاريخ الجماعة، مثل مسلسل «الاختيار» وأفلام وثائقية عن الجماعات الإرهابية، بهدف الوصول إلى فئات أوسع من الجمهور، وخاصة الشباب.

 هذه الأعمال ساهمت فى بناء وعى مجتمعى جديد يرى فى التنظيم تهديدًا لا مجرد فاعل سياسي، ويُعيد الاعتبار إلى مؤسسات الدولة بوصفها حامية للاستقرار فى مواجهة مشاريع التفتيت الديني.


ملاحقة إعلام الإخوان بالخارج

فى ظل استمرار جماعة الإخوان فى بث خطابها التحريضى من الخارج، خصوصًا من خلال قنوات فضائية تبث من تركيا وقطر مثل «الشرق» و«مكملين»، كثفت الدولة المصرية جهودها الدبلوماسية والإعلامية لمواجهة هذه المنصات. شملت هذه الجهود التواصل مع حكومات تلك الدول، ورفع دعاوى دولية ضد بعض القنوات، إلى جانب فضح محتواها التحريضى أمام الرأى العام الدولى باعتبارها منابر تغذى الكراهية وتحرض على العنف ضد الدولة المصرية.


وفى الوقت نفسه، أنشأت مصر قنوات ومنصات إعلامية موجهة لتفكيك خطاب هذه القنوات من الداخل، عبر فضح الأكاذيب وتقديم روايات مضادة مدعومة بالأدلة. كما تم رصد وتحليل أداء الإعلام الإخواني، واستخدامه كأداة فى الحروب النفسية والدعاية السوداء، بهدف تحصين الداخل المصرى من تأثيره، وتحقيق اختراق فى الوعى الجماهيرى لدى الجاليات المصرية والعربية فى الخارج.


المواجهة الدينية والفكرية

منذ عام ٢٠١٣، أُعيد تفعيل دور المؤسسات الدينية الرسمية فى مصر وعلى رأسها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف لمواجهة الخطاب الدينوى المتشدد الذى تروج له جماعة الإخوان. وقد تم تكليف هذه المؤسسات بإعادة تصحيح المفاهيم التى حرفها الإخوان عن سياقاتها الشرعية، مثل مفاهيم «الحاكمية لله»، و«الولاء والبراء»، و«الجهاد»، حيث قامت ندوات ومحاضرات ودورات تدريبية لشرح المعانى الصحيحة لهذه المصطلحات ضمن الفهم الوسطى للإسلام، وتفنيد استغلالها فى تسويغ العنف السياسي.

ومن خلال المركز العالمى للفتوى الإلكترونية، وهيئاته البحثية، أصدر عشرات الدراسات والبيانات التى تُبرز خطورة توظيف الدين فى الصراع السياسي، مؤكدًا أن الإسلام لا يعرف التنظيمات السياسية الدينية. كما أطلقت وزارة الأوقاف سلسلة من المؤلفات مثل «ضلالات الإرهابيين» و«مفاهيم يجب أن تصحح»، واستثمرت فى تدريب الأئمة والخطباء على التعامل مع قضايا التطرف، لضمان خطاب دينى عقلانى يعالج الشبهات الفكرية ولا ينجرف نحو الأدلجة أو التحريض.

وأحد أبرز الإجراءات التى اتخذتها الدولة للحد من نفوذ جماعة الإخوان كان فرض الرقابة الكاملة على المنابر الدينية. وقد تم سن تشريعات تنظم العمل الدعوي، أبرزها فرض ترخيص موحد للخطابة لا يُمنح إلا لخريجى الأزهر ومَن يتم اعتمادهم من وزارة الأوقاف. هذا الإجراء أغلق الباب أمام مئات الدعاة غير المؤهلين أو المحسوبين على الجماعة من التحدث باسم الدين فى المساجد، ما حدّ من إمكانية نشر أفكار الجماعة فى أوساط المصلين.

كما عملت الوزارة على توحيد خطبة الجمعة، وتحديد موضوعها سلفًا لضمان عدم استغلالها سياسياً أو عقائدياً، مع تطبيق نظام رقابى صارم على المساجد الكبرى والصغرى. تم إغلاق العديد من الزوايا غير المرخصة التى كانت تمثل بؤرًا لنشاط الجماعة فى الأحياء الشعبية، وجرى تنظيم عملية جمع التبرعات داخل المساجد تحت إشراف حكومى مباشر، لقطع قنوات التمويل التى كانت تعتمد عليها الجماعة لتثبيت نفوذها المجتمعي.
كما أولت الدولة أهمية كبرى لنشر خطاب دينى بديل ومتوازن يعزز قيم الوطنية والانتماء، ويرسخ مبدأ المواطنة فى مواجهة دعاوى التمايز الدينى والاصطفاف العقائدي. وقد تم دعم مبادرات ومؤتمرات تهدف إلى إحياء الفهم الصحيح للإسلام بعيدًا عن النزعة الأيديولوجية، كما شجعت الدولة الأئمة والمثقفين على تقديم خطابات تدمج بين قيم الدين وروح الدولة الحديثة، بعيدًا عن الخطاب الإقصائى الذى استخدمه الإخوان لاستقطاب الشباب.


كما استثمرت وسائل الإعلام فى برامج دينية معاصرة تستضيف شيوخًا ومفكرين يروجون لفهم إنسانى وروحى للدين، يرفض فكرة «الفرقة الناجية» والتكفير السياسي. هذا الخطاب المعتدل أصبح جزءًا من السياسة العامة للدولة تجاه الدين، حيث لم تكتف السلطات بمحاربة الخطاب المتطرف بل عملت على بناء بديل مقنع له، يعيد للدين مكانته كقيمة روحية وسلوكية وليس كوسيلة لتحقيق غايات سياسية.


الشق الدولي

فى أعقاب تصنيف جماعة الإخوان كتنظيم إرهابى داخل مصر، بدأت السلطات المصرية فى ملاحقة عدد من قيادات الجماعة الهاربين إلى الخارج عبر القنوات القانونية والدبلوماسية، وفى مقدمتها التعاون مع الإنتربول لإصدار نشرات حمراء بحق مطلوبين بتهم تتعلق بالإرهاب، والتحريض على العنف، وتمويل جماعات متطرفة. ضمت هذه القوائم شخصيات بارزة من الصف الأول والثانى فى الجماعة، إلى جانب إعلاميين وداعمين ماليين لعبوا أدوارًا فى تأجيج الفوضى داخل مصر وخارجها.

ورغم الجهود المبذولة، واجهت مصر صعوبات فى تنفيذ هذه المذكرات بسبب الحماية السياسية التى توفرها بعض الدول لهؤلاء المطلوبين، مثل تركيا وقطر، والتى تستضيف عددًا كبيرًا من كوادر الجماعة وتمنحهم منصات إعلامية وسياسية. هذا الواقع جعل مسألة التسليم القضائى معقدة، لكنها لم تمنع القاهرة من استخدام أدوات القانون الدولى لتوثيق جرائم هذه القيادات، وتثبيت الاتهامات بحقهم فى المحافل القضائية والإعلامية الدولية.

وإدراكًا منها لأهمية معركة الرأى العام الدولي، كثّفت الدولة المصرية تحركاتها السياسية والدبلوماسية لفضح ارتباط جماعة الإخوان بالعنف والإرهاب، لا سيما بعد تصاعد الهجمات فى شمال سيناء واستهداف قوات الجيش والشرطة. سعت القاهرة لتوضيح أن الجماعة ليست مجرد معارضة سياسية، بل تنظيم أيديولوجى عابر للحدود يوفّر بيئة حاضنة للعنف، وله صلات مباشرة أو غير مباشرة بتنظيمات متطرفة كداعش والقاعدة.
وقد استخدمت مصر فى ذلك أدوات متعددة، منها المؤتمرات الدولية، والتقارير الرسمية، وحملات إعلامية موجهة، بالإضافة إلى التنسيق مع دول أوروبية وأفريقية لتبادل المعلومات الأمنية المتعلقة بامتدادات الجماعة ونشاطاتها المالية والإعلامية. كما عملت على مواجهة محاولات الإخوان تقديم أنفسهم كممثلين للمعارضة المصرية فى الخارج، وسعت لتجريدهم من أى غطاء سياسى دولي، وإظهار تناقضهم مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التى يدّعون التمسك بها.
الشق الاقتصادى والاجتماعى
أحد أبرز أركان المواجهة مع تنظيم الإخوان تمثل فى استهداف شبكتهم الاقتصادية التى كانت تمثل مصدرًا رئيسيًا للتمويل والدعم اللوجستي. ولهذا الغرض، أنشأت الدولة «لجنة حصر وإدارة أموال جماعة الإخوان» التى باشرت منذ ٢٠١٣ إجراءات موسعة لتجميد ومصادرة أموال وأصول تعود لأفراد وشركات مرتبطة بالجماعة. شملت هذه الإجراءات مئات الكيانات الاقتصادية، من شركات استثمارية وتعليمية وطبية، وحتى مدارس خاصة ومؤسسات مصرفية تعمل كواجهات للتمويل.
وقد واجهت اللجنة تحديات قانونية وإدارية، لكنها نجحت فى فرض رقابة مباشرة على هذه الأصول ونقل إدارتها إلى الدولة، مع التأكيد على عدم المساس بحقوق المستفيدين من الخدمات، كطلاب المدارس أو مرضى المستشفيات. الهدف لم يكن فقط تجفيف منابع التمويل، بل أيضًا تفكيك النفوذ الاقتصادى الذى مكّن الجماعة لعقود من توسيع حضورها فى الطبقة الوسطى والقطاعات الخدمية.
ولطالما اعتمد الإخوان على العمل الخيرى والاجتماعى لكسب القبول الشعبي، حيث أنشؤوا جمعيات تقدم خدمات طبية وتعليمية ومعونات مادية للفقراء، مما منحهم شعبية واسعة خصوصًا فى المناطق المهمشة. ومع تفكيك بنيتهم التنظيمية، سعت الدولة إلى سد هذا الفراغ من خلال إحلال منظمات مجتمع مدنى بديلة، وزيادة الدعم الحكومى المباشر للمواطنين، خاصة فى مجالات الصحة، والتعليم، والرعاية الاجتماعية.
وبرزت مبادرات مثل «تكافل وكرامة»، و«حياة كريمة» كمشروعات اجتماعية كبرى تهدف إلى تحسين مستوى معيشة الفئات الأكثر فقرًا، وتقديم الدعم بشكل مؤسسى ومنظم بعيدًا عن أى توظيف سياسى أو ديني. كما جرى تشجيع الجمعيات الأهلية المستقلة على التوسع فى نشاطاتها، ضمن إطار قانونى جديد يضمن الرقابة والشفافية، ويمنع أى اختراق من جماعات ذات خلفيات أيديولوجية. بهذا الشكل، لم تكتف الدولة بإزاحة الإخوان من المشهد الخيري، بل أعادت بناء منظومة بديلة أكثر شمولًا وحيادية.
تأثير الاستراتيجية المصرية لمواجهة جماعة الإخوان على أوروبا 
لسنوات، اعتُبرت جماعة الإخوان فى أوروبا- وخاصة فى فرنسا وبريطانيا- نموذجًا «معتدلًا» للإسلام السياسي، يمكن استخدامه كحائط صد ضد الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش. لكن بعد التحركات المصرية المكثفة منذ ٢٠١٣، بدأت دول مثل فرنسا فى مراجعة هذا التصور، خصوصًا مع تصاعد الأدلة حول علاقات الجماعة بشبكات تمويل وتحريض وتجنيد داخل أوروبا. 
ليس هذا فقط ولكن استخدمت القاهرة أدواتها الدبلوماسية لتقديم ملف موثق عن تاريخ الجماعة، وعلاقاتها بالإرهاب، وممارساتها داخل الجاليات المسلمة فى أوروبا. وقد ساهمت هذه الجهود، خصوصًا من خلال التعاون الأمني، فى دفع الحكومات الأوروبية لإعادة النظر فى سياسات احتواء الجماعة.
فرنسا كنموذج متقدم للتصدي
تبنّت فرنسا خطابًا مشابهًا إلى حد كبير للخطاب المصرى فى نقد الإسلام السياسي، مع تركيز خاص على الانفصالية الإسلاموية، وهو المفهوم الذى استخدمه الرئيس إيمانويل ماكرون فى توصيف الجماعات التى تستغل الدين لبناء مجتمعات موازية داخل الدولة. وقد تأثر هذا التحول جزئيًا بتقارير وشهادات مصرية حول طريقة تغلغل الإخوان فى المؤسسات الاجتماعية والتعليمية.
وفى ٢٠٢١، مررت فرنسا قانونًا يستهدف الجماعات التى تستخدم الدين لأهداف سياسية، ويعزز الرقابة على الجمعيات الدينية والتعليمية. ورغم أن القانون لم يذكر جماعة الإخوان بالاسم، إلا أن تطبيقاته شملت جمعيات ومساجد مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بفكر الجماعة. وكان للخبرات الأمنية المصرية دور فى إثراء فهم الأجهزة الفرنسية لطبيعة «الإخوان الجدد» وشبكاتهم فى أوروبا.
التحالف الأمنى والاستخباراتى
شهدت السنوات الأخيرة تعاونًا متزايدًا بين مصر وفرنسا فى ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب، خاصة فى ظل التقارب بين البلدين فى ملفات مثل ليبيا، والساحل الأفريقي. وضمن هذا الإطار، تبادلت الأجهزة الأمنية معلومات حول تحركات الإخوان وتمويلاتهم وعلاقاتهم مع منظمات أخرى فى أوروبا.
دفعت هذه المعلومات فرنسا إلى تشديد الرقابة على عشرات الجمعيات التى يشتبه بعلاقتها بالإخوان، خاصة تلك التى تعمل تحت مظلة «المساعدة الإنسانية» أو «التثقيف الديني». وتم بالفعل حل أو التحقيق مع العديد منها، مع فرض رقابة على مصادر تمويلها، خصوصًا تلك القادمة من الخارج.
تأثير محدود لكنه متنامٍ فى باقى أوروبا
رغم أن فرنسا كانت الدولة الأوروبية الأكثر تجاوبًا مع الطرح المصرى بخصوص خطورة جماعة الإخوان، فإن بقية الدول الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وألمانيا، اتخذت مواقف أكثر حذرًا وتردّدًا. هذا التباين يعود جزئيًا إلى الطبيعة القانونية والسياسية لتلك الدول، التى تتعامل مع الإسلام السياسى ضمن أطر حرية التعبير والتنظيم المدني، إلى جانب وجود تيارات مؤيدة للجماعة داخل بعض الأوساط الأكاديمية والحقوقية الغربية. كما أن الإخوان فى تلك البلدان حرصوا على استخدام خطاب مزدوج يركز على العمل الخيرى والدمج الاجتماعي، مما صعّب من تصنيفهم كتهديد مباشر.
مع ذلك، بدأت ملامح التحول تظهر بشكل تدريجي. فى بريطانيا، أطلقت الحكومة مراجعة شاملة لسياسات الجماعة عام ٢٠١٥ انتهت إلى توصيفها كـ«نقطة عبور نحو التطرف»، دون اتخاذ إجراءات حاسمة، بينما بدأت الأجهزة الأمنية فى ألمانيا تشديد الرقابة على الجمعيات والمراكز المرتبطة بها، خصوصًا بعد الكشف عن شبكات تمويل قادمة من الخليج وتركيا. كما ساهمت العمليات الإرهابية التى وقعت داخل أوروبا فى السنوات الأخيرة فى رفع منسوب القلق من وجود بيئات أيديولوجية حاضنة داخل القارة، وهو ما جعل تنظيمات الإسلام السياسى محل إعادة نظر.
الاستراتيجية المصرية – بما تملكه من ملفات أمنية وخبرة طويلة فى التعامل مع الجماعة – لعبت دورًا غير مباشر فى هذا التحول الأوروبي، عبر قنوات دبلوماسية وأمنية مستمرة، وأحيانًا من خلال تسريبات إعلامية منظمة. وقد أتاح هذا الزخم للدول الأوروبية مجالًا أوسع للحديث عن ضرورة تفكيك البنية الناعمة للإخوان، لا فقط عبر الخطاب، بل من خلال تشريعات تقيّد تمويل الجمعيات الدينية، وتلزمها بشفافية مالية وأيديولوجية. وبالرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً، فإن التأثير المصرى وضع حجر الأساس لتحوّل قد يتسع فى السنوات المقبلة.
خلاصة:
الاستراتيجية المصرية ضد الإخوان لعبت دورًا مهمًا فى إزاحة القناع «الناعم» عن الجماعة أمام الرأى العام الأوروبي، وساعدت فرنسا على تطوير مقاربة قانونية وأمنية أكثر صرامة تجاه الإسلام السياسي. ومع استمرار التعاون الأمنى والدبلوماسي، من المتوقع أن تزداد ضغوط أوروبا على الإخوان، ليس فقط باعتبارهم خطرًا أمنيًا، بل أيضًا تهديدًا لقيم الدولة المدنية العلمانية.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق "الاستئناف" تحيل شكوى الزمالك ضد الأهلي وزيزو إلى "شئون اللاعبين"
التالى بعد تكريمه عن مسلسل وتقابل حبيب.. خالد سليم: شكرًا لتشجيع الجمهور دايمًا