الشكوى الحقيقية لواشنطن من القادة الإيرانيين لم تكن تتعلق يوما بالهجوم على الولايات المتحدة أو إسرائيل بالسلاح النووي. إنها تتعلق بإيجاد مسألة تجعل - الرأى العام الأمريكي- فى غاية القلق. لعقود بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان الاتحاد السوفيتى هو العدو المخيف الذى يحاول نشر الشيوعية فى الشرق الأوسط. لاحقا، أتى الخطر من صدّام حسين وأسلحة الدمار الشامل. الآن، إنها إيران والتهديد النووي. لضمان الهيمنة الأمريكية فى الشرق الأوسط، يجب أن يكون لدى واشنطن عدو شديد لتحاربه، آيات الله يوفون بالغرض.
بهذا الاعتراف للخبير الأمريكى وليام بيمان، نستطيع فهم ميراث العداء الذى تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية ضد إيران عبر عقود متواصلة، وهو المشهد الذى قادنا للحظة حاسمة فى الصراع مع إعطاء الضوء الأخضر للربيبة الأمريكية، إسرائيل، لشن هجوم مكثف أمس على منشآت إيران النووية واللوجستية العسكرية، وقتل علماء نوويين وقادة عسكريين، ولترد إسرائيل بكتل لهب تجتاح تل أبيب، فى مشهد يجعل ١٣ يونيو يوما لن ينساه العالم، ونذير لاضطراب أكبر يعم المنطقة.
فى كتابه الأحدث: "أجندة إيران اليوم- الرواية الحقيقية من داخل إيران" للصحفى والمراسل الأمريكى البارز ريز إرليخ – صدر بترجمة عربية عام ٢٠١٩- يشير المؤلف إلى أنّ معظم الوكالات الاستخباراتية الأمريكية متفقة على أنّ إيران لم تكن تمتلك برنامجًا نوويًا قبل العام ٢٠٠٣.
كان المؤلف واحدا من الخبراء الإيرانيين الذين يتحدثون الفارسية بطلاقة وقد عمل كخبير لغوى أنثروبولوجى منذ ١٩٦٨، وهى فئة من الخبراء تضاءلت لاحقا، واستبدلت بفئة تستعدى إيران بلا هوادة.

سلاح نووي.. حقيقة أم وهم؟!
يؤكد الكتاب أنه لسنوات عديدة سعت أمريكا لتغيير النظام فى إيران، وتضاعفت المحاولات مع إدارة ترامب، وكان ذلك بمعاونة رجال منهم السيناتور الجمهورى عن ولاية أركنساس طوم كوتون والذى قال: "لا أفهم كيف يمكن أن تكون أمريكا آمنة فى ظل وجود ديكتاتورية ثيوقراطية (دينية) - ويعنى إيران". وأصدرت الولايات المتحدة بالفعل إدانات هائلة لما ادّعت أنه مخالفات إيرانية لاتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية التى تحظر تطوير الأسلحة النووية، وبالطبع لا يأتى المسئولون الأمريكيون على ذكر مخالفات أمريكا الصارخة لتلك الاتفاقية؛ وقد أنفقت أكثر من تريليون وثلاثمائة مليون دولار على ترسانتها النووية حتى ٢٠١٧ فقط، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز".
كان الشاه قد ألمح أن إيران ستمتلك السلاح النووى بالفعل وتحديدا فى ١٩٧٤ ثم عاد ونفى الأمر. اعتقدت أمريكا أن الدولة المنتجة للنفط مثل إيران لن تفكر فى سباق التسلح النووي، وكان ذلك موقف هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، لكن أمريكا تراجعت لاحقا عن نظرتها وبدأت تدعم النظرة بامتلاك إيران لسلاح نووي!
الحق المقدس فى نهب إيران!
روبرت شير رئيس تحرير مجلة Truth Dig يؤكد فى تقديمه لكتاب "أجندة إيران" أن النزعة الإمبريالية الأمريكية انطوت على ظلم تاريخى للشعوب، وفى حالة إيران يتبدى ذلك بوضوح فى محاولة أمريكا السيطرة على إيران الثرية بالنفط وتوجيه سياستها عبر أكثر من خمسين عاما.
يدعم ذلك اعتراف شارلز فريمان جونيور السفير الأمريكى الأسبق لدى السعودية، حين أكد لمؤلف الكتاب أن بلاده تريد حكومات شرق أوسطية غير عدائية ومستعدة للعمل مع الشركات الأمريكية لتأمين الطاقة!
يتأمل "إرليخ" كل السياسات الأمريكية الكارثية فى الشرق الأوسط، وأقربها الخيار العسكرى الفادح فى العراق والذى أنتج صعود جماعات العنف، وكانت مآرب أمريكا الحقيقية المرتبطة بنفط العراق وقوة موارده الطبيعية متخفية تحت قناع البحث عن الأسلحة النووية التى لم يثبت وجودها!
هذا هو ما ينطبق على إيران؛ وقد نظرت أمريكا لتأميم إيران شركات النفط فى السبعينيات وكأنه اعتداء على الحق المقدس فى نهب الشعوب. لذا – وبحسب المؤلف- فإن العداء لإيران مبنى على أسباب بعيدة عن تخصيب اليورانيوم، وهي: الجغرافيا السياسية والنفط والحضور العسكري؛ فإيران قوة شيعية فى محيط سنى واسع. قبل ١٩٧٩، استخدمت أمريكا وإسرائيل، إيران، كقوة اقتصادية عسكرية لمحاربة القومية العربية.
بعد ثورة الخومينى ١٩٧٩، خرجت إيران من دائرة النفوذ الأمريكى وخلقت تدريجيا تحالفات مع حكومات العراق، لبنان وسوريا. وإيران من جهة أخرى دولة تمتلك أكبر احتياطى نفطى فى العالم، وقد أممت شركة النفط الإيرانية. أما من الناحية العسكرية؛ قبل عام ١٩٧٩، كانت أمريكا قد جهزت نحو ٥٠ ألف عسكرى من القوات الإيرانية لحماية المنطقة من العدو الشيوعى وحماية شركات النفط الأمريكية ومصالحها الجيو سياسية وساهمت فى تثبيت حكم الشاه التسلطي، ولقد ولدت هذه القضايا الكثير من الاستياء وكانت عاملا فى إسقاط الشاه، وأدت الثورة لاحقا لانسحاب القوات الأمريكية.
نظرة أقرب للداخل
استغرق "إرليخ" ١٦ عاما وأجرى مئات المقابلات داخل وخارج إيران، وخرج بنتيجة مفادها أن إيران دولة يساء فهمها بشكل واسع وهى أرض جميلة وواحدة من أقدم الحضارات المستمرة، ولها تراث أدبى وفنى وسياسى رسم جزءًا هاما من حضارة العالم، كما أن شعبها ذكى ومثقف.إيران أيضا قوة هامة صاعدة ودولة حديثة جدا من ناحية البنى التحتية وشبكات النقل والصناعات. وللنساء وللشباب أدوار حيّة. يلفت المؤلف لتراجع قبضة نظام الملالى فى الحياة الثقافية فصارت أكثر تحررا نسبيا، وصارت العقوبات أقل بشأن مسألة الحجاب، وفق النسق الغربى الذى يعتبره تضييقا، كما أصبح مسموحا شراء صحونا لاقطة لمشاهدة الفضائيات بعد أن كانت مجرمة.حاول نظام أحمدى نجاد منع الأطباق من جديد، لكن ظلت قضية الفساد داخل الحرس الثورى وتهريب الصحون اللاقطة والمخدرات عنوانا أبرز.
يسعى المؤلف للقول بأن إيران دولة حضارية حديثة لكنها غير بريئة من انتقادات جادة فى مسائل تتعلق بحقوق الإنسان والاعتقالات للمعارضة السياسية، وشيوع البطالة، وتزايد الإنفاق الحكومى العسكرى على حلفاء إيران الإقليميين، ما يؤدى لزيادة التوتر فى الشارع.
من التحالف مع إيران لشيطنتها
وفق الكتاب، فإن حقيقة الأمر تثبت أن أمريكا وإسرائيل كانتا قد قررتا شيطنة إيران ليس إلا، يقر ذلك "حسن" حفيد آية الله الخومينى مؤكدا أنه حتى لو حققت إيران كل شروط أمريكا فإنها ستخلق ذرائع جديدة لاتهامها بالإرهاب.
لقد دأبت أمريكا على شيطنة إيران، وكانت الأفلام جزء من ذلك: (معروف أن أمريكا مهووسة بأفلام بطولة البيت الأبيض أمام من تصفهم بالأعمال الإرهابية أو المتشددة؛ ولعل فيلم آرغو (بالإنجليزية: Argo) ) حائز الأوسكار ومقتبس عن شهادة عميل المخابرات الأمريكية السابق تونى منديز عن إنقاذ ستة دبلوماسيين أمريكيين من طهران بعد اقتحامها من قبل ثوريين إيرانيين، خلال أزمة رهائن إيران فى عام ١٩٧٩. فكرة الفيلم المقتبس عن قصة حقيقية تقوم على خداع إيران المتشددة للغاية فى مصادرة كل ما هو أمريكي، وإيهامها بتصوير فيلم كندى من خلال الناجين الستة من اقتحام السفارة، ومن ثم تهريبهم خارج البلاد على أنهم طاقم عمل).
فى مرحلة ما قبل الثورة الخومينية، كانت سياسة إسرائيل تقوم على دعم الحكومات غير العربية فى المنطقة لدق الإسفين مع العرب، فراحت تدعم إيران وتركيا وإثيوبيا. ولم تجد غضاضة حتى فى دعم نظام الملالى الإيرانى الذى يدعو علنا لـ"موت إسرائيل"، وكان إسحاق رابين رئيس الوزراء الأسبق لإسرائيل يعتبر أن إيران دولة إسرائيل المفضلة لأن نظام الخومينى لن يدوم إلى الأبد.
لقد باعت إسرائيل لإيران قطع غيار وأسلحة هامة، فى الحرب الإيرانية ضد العراق، وكانت تلك جزءًا من فضيحة عُرفت بـ إيران - كونترا، وكانت إسرائيل تعتبر آنذاك أن العراق هو العدو الأكثر خطورة. كانت الولايات المتحدة هى المورّد الأول للأسلحة لإيران قبل سنة ١٩٧٩. لكن الأزمة تغيرت، وإسرائيل رأت أن دورها يجب أن يتحول لشيطنة إيران أكثر من العراق. بدأ شيمون بيريز يؤكد أن أحمدى نجاد هو شخصية مثل هتلر تريد إبادة شعب اليهود، ومن الخطر أن يمتلك سلاحا خطرا مثل النووي. كانت تلك التهم الجاهزة تطلق بحق كل من عارضوا إسرائيل من قبل ومنهم صدام حسين وياسر عرفات ورئيسا مصر السابقين عبد الناصر والسادات قبل توقيع كامب ديفيد.
فلسطين كلمة سر
فى القدس وتحديدا عام ١٩٨٧، التقى مؤلف الكتاب الأمريكي، بعضو الكنيست وسفير إسرائيل السابق فى مصر والولايات المتحدة، ويدعى إلياهو بن إليعازر. كانت لحيته متراخية ومشذبة كما لو كنّا مطلع القرن الثامن عشر فى أوروبا. بدا إليعازر يمينيا متشددا كحزب الليكود الحاكم آنذاك، يرفض إنشاء دولة فلسطينية ويدّعى أن للفلسطنييين دولتهم فى الأردن! يؤيد ضم الضفة الغربية أيضا لإسرائيل، ويبرر التعذيب الذى يمارسه جهاز الاستخبارات الإسرائيلى الشين بيت ضد المقاومين.
التقى مؤلف الكتاب فؤاد إزداى وهو أستاذ بجامعة طهران، وفهم من خلاله أن إيران تدعم خيار الدولة الواحدة، وهذا يعنى عودة اللاجئين الفلسطينيين المقدرين بنحو ٥ ملايين من المنفى وإلى ديارهم فى فلسطين، وإلغاء أى خيار لدولة يهودية فى إسرائيل. وأخبره أن إيران لن تمانع حل الدولتين، لو توافق الفلسطينيون أنفسهم على هذا الحل، وتمت إعادة الأراضى العربية المحتلة والاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة عاصمتها القدس. هذا الحل أيده خالد مشعل القيادى الحمساوى البارز والذى التقاه مؤلف الكتاب أيضا.
يرى مؤلف الكتاب أن القادة الإسرائيليين قطعوا الطريق على حل الدولتين من خلال الاستمرار بتوسيع وبناء مستوطنات على الأراضى الفلسطينية المحتلة، وأوقف نتنياهو كل التفاوض مع الفلسطينيين، خاصة مع نقل إدارة ترامب للسفارة الأمريكية إلى القدس.
ماذا يعنى ضرب إيران؟
يؤكد مؤلف الكتاب ان إدارة ترامب أزالت الغبار عن الخطط القديمة لإدارة بوش لتنفيذ ضربة عسكرية ضد إيران. لا تدرك أمريكا أن حرب إيران قد تعنى الكثير وواحد من نتائجها سيعنى ارتفاع جنوبى لأسعار النفط العالمية مع إغلاق مضيق هرمز، أو سيناريو آخر كارثى يشبه ما حل بجنود أمريكا فى العراق. والعدوان الأمريكى على إيران سيغضب المسلمين ويشعل مظاهرات فى أوروبا والشرق الأوسط وآسيا وهو ما قد يدفع حلفاء تلك البلدان فى العراق وسوريا تحديدا للهجوم على القوات الامريكية، وفى سيناريو كابوسى قد تشجع إيران تنفيذ الأعمال الإرهابية داخل الولايات المتحدة والدول الحليفة.
وهو شخصيا – المؤلف- يعتبر أن أحد أكبر أخطاء بلاده يكمن فى عدم التواصل مع تيار الاعتدال الإيراني، وأنه بالإمكان للمواطنين العاديين أن يرفضوا التدخلات الأمريكية السافرة. يعترف المؤلف "إرليخ" أن ضمان أمن إسرائيل مستحيل "ما لم تعد الأراضى العربية المحتلة"، وأنه عليها الكف عن سياسة إلقاء التهم على المقاومة اللبنانية والفلسطينية فى ضياع أمنها، أو الاغترار بتفوقها العسكرى وتصور أنه يؤمن وجودها.
