في قلب عاصفة جيوسياسية تتفاقم، تقف المنطقة أمام مشهد غير مسبوق من التوتر والتصعيد، عنوانه الأبرز : إيران وإسرائيل على حافة الانفجار، والولايات المتحدة دخلت فعليا كطرف مقاتل، فما جرى من استهداف مباشر أمريكي لمنشآت نووية إيرانية ليس مجرد عمل عسكري، بل هو تحول جوهري في قواعد الاشتباك الإقليمي، وتعبير عن تغير في العقيدة الاستراتيجية الأمريكية تجاه طهران.. واشنطن، التي كانت تكتفي طيلة العقد الماضي بسياسات الاحتواء والضغط الاقتصادي، انتقلت الآن إلى منطق "الضربة الوقائية"، في سابقة تفتح أبواباً خطيرة على كل المستويات.
اختيار المواقع فوردو، نطنز، أصفهان ليس رمزياً فقط، بل يحمل رسالة بأن مراكز الثقل التكنولوجي والسيادي لإيران يمكن أن تكون مكشوفة إذا قررت القوى الكبرى التصعيد، لكن إيران لم تظهر حتى اللحظة سلوك دولة انهارت سيادتها؛ بل تبقي على حالة الرد المرن، وتحافظ على حق الرد دون أن تنجر إلى رد فعل انفعالي شامل. هذا النمط السلوكي يدل على أن طهران تدير صراعها بحسابات معقدة، تراعي فيها ليس فقط التوازن العسكري، ولكن أيضاً تموضعها التفاوضي في أي تسوية محتملة.
المثير للانتباه في هذه المرحلة، أن الضربة لم تغير في بنية البرنامج النووي الإيراني بالشكل الذي تتصوره واشنطن. نعم، هناك تعطيل جزئي، وربما بعض الخسائر الفنية، لكن البرنامج كفكرة واستراتيجية ما يزال حاضرًا، وإيران لن تتخلى عن مشروعها النووي، لا لأنه ضرورة عسكرية فقط، بل لأنه ورقة القوة الأساسية على طاولة التفاوض الدولي، وهو ما يجعلها طرفاً لا يمكن تجاوزه في أي صياغة للشرق الأوسط الجديد.
في المقابل، إسرائيل لم تعد في موقع التفوق الكامل. الحرب المفتوحة تفرض عليها استنزافاً طويل الأمد، ولعل الأرقام التي خرجت من الداخل الإسرائيلي، حيث سجل أكثر من 30 ألف مواطن بلاغات أضرار للمطالبة بتعويضات، تؤشر على أن كلفة الحرب بدأت تتجاوز حسابات "الردع" إلى دائرة "الاضطراب البنيوي" في الاقتصاد والمجتمع، فضلاً عن الكلفة العسكرية للضربات التي توجهها إلى طهران، وتآكل ثقة المواطن التي باتت تهتز، والخطاب السياسي الإسرائيلي الذي يروج للسيطرة المطلقة أصبح أيضاً عاجزاً عن إخفاء ثمن المواجهة الحقيقية حين تقع.
وكذلك ارتفاع نسبة اللجوء إلى مراكز الدعم النفسي بنسبة 350% في إسرائيل منذ اندلاع الحرب، يمثل مؤشراً خطيراً على حجم الانهيار النفسي والاجتماعي داخل المجتمع الإسرائيلي.. هذا الرقم لا يعبر فقط عن حالة الخوف من الصواريخ أو هجمات الطائرات، بل يكشف عن اهتزاز الثقة في الدولة، وتراجع الشعور بالأمان الشخصي، حتى في المناطق التي كانت تعد الأكثر تحصيناً، القلق، والاكتئاب، ونوبات الهلع أصبحت حالات شائعة، لا سيما مع التهديدات المستمرة، ونقص الملاجئ، والانقسام الاجتماعي العميق، والتمييز العنصري الذي ظهر بوضوح في أثناء استهداف العمق الإسرائيلي، هذا التصاعد الحاد في الطلب على العلاج النفسي يعكس أيضاً عجز منظومة الصحة العامة عن الاستجابة للأزمة، ويشير إلى أن إسرائيل تخسر حرب الأعصاب، حتى قبل أن تخسر المواجهة العسكرية.
ومن ناحية أخرى، في شكل مستقبل الصراع فإن تهديد الملاحة في مضيق هرمز الشريان الحيوي لنقل نحو 20% من النفط العالمي، يجعل من الوضع الجيوسياسي أكثر هشاشة. إيران تملك القدرة، وقد أرسلت إشارات واضحة أنها قد تلجأ إلى هذا الخيار إذا تمادت الضربات على أراضيها، إغلاق المضيق أو حتى التلويح به يؤدي فوراً إلى ارتفاع أسعار النفط، كما حصل بالفعل، حيث قفزت الأسعار فوق 97 دولارًا، وارتفعت كلفة التأمين على الناقلات بنسبة تجاوزت 60%، هذا لا يهدد فقط اقتصاديات الدول الصناعية، بل يضغط بشدة على الدول النامية ويهدد الاستقرار الاجتماعي في مناطق واسعة من آسيا وأفريقيا.
الاقتصاد الإقليمي والعالمي بدوره لا يقف بعيداً عن مسرح النيران، أسعار النفط تقترب من 100 دولار للبرميل، والتضخم يلوح في الأفق من جديد، الأسواق تتقلب، وكلفة الشحن والتأمين ترتفع، وتجبر الدول المستوردة للطاقة على إعادة صياغة موازناتها، العالم يتابع، لكنه عاجز عن التدخل الحاسم، وسط انقسام دولي، وتراجع فعالية المنظومات متعددة الأطراف، وافتقاد الأمم المتحدة لأي نفوذ ردعي حقيقي.
وفى ظل ذلك يأتي ترشيح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لجائزة نوبل للسلام من قبل باكستان، تزامناً مع قيادته لواحدة من أخطر الضربات العسكرية على منشآت نووية في إيران، ما يطرح مفارقة عميقة تتجاوز حدود الدهشة السياسية، وتدفعنا إلى مساءلة جوهرية: هل بات السلام يمنح كجائزة على الردع بالقوة؟.. في الظاهر، يبدو التناقض صارخاً: رئيس يصعد عسكرياً في الشرق الأوسط، ويقحم العالم في شبح مواجهة نووية، وفي ذات الوقت يرشح لجائزة يفترض أن تمنح لصانعي الوفاق لا مثيري الحروب لكن عند تفكيك الصورة بدقة، نجد أن هذا التناقض هو في الواقع جزء من سردية ترامب السياسية، التي يسوق فيها القوة كوسيلة لصنع السلام، وفق عقيدة "السلام من خلال الهيمنة".
المشهد إذاً ليس مجرد مواجهة بين طهران وتل أبيب، بل هو صراع على مستقبل الإقليم بين منطق التفوق العسكري ومنطق السيادة المتعددة الأقطاب، وإذا لم تفتح قنوات تفاوض جديدة، تحت مظلة إقليمية ودولية تضمن مصالح الجميع، فإن ما يجري قد يكون مقدمة لصدام أكبر، لن تكون فيه الأطراف الحالية قادرة على ضبط إيقاع النار.
من يربح إذاً؟ ليس من يملك القنبلة الأقوى، بل من يملك القدرة على تفكيك المعركة قبل أن تتحول إلى حريق شامل، والشرق الأوسط في هذه اللحظة، يعيش على إيقاع سؤال لم يعد نظرياً: هل تنتصر السياسة أم الصواريخ؟.
ما هو مؤكد حتى اللحظة فقط أن المنطقة تدار الآن على خيط رفيع بين الانفجار والتراجع، بين الفوضى والنظام، وبين لعبة الأمم الكبرى وصراعات الداخل المتشظي، وتهديد المنشآت النووية، واختناق العالم بمضيق هرمز، والمؤسف أن ضبابية المعلومات كلها عناوين لحالة عالمية مرتبكة، تتطلب أكثر من مجرد تحالفات آنية أو بيانات إدانة، إنها بحاجة إلى عقل إستراتيجي يعيد للمنطقة توازنها المفقود.
وسط هذا السياق المعقد، تبرز مصر كرمان توازن نادر في الإقليم، التأكيد الدبلوماسي المصري لرفض العدوان الإسرائيلي على السيادة الإيرانية منذ بداية الحرب، فضلاً عن الاتصال الذي أجراه الرئيس عبد الفتاح السيسي بنظيره الإيراني، وتأكيده على رفض التصعيد، يكشف عن إدراك عميق من القاهرة بأن انفجار الجبهة الإيرانية لن يقف عند حدود أمن الخليج، بل سينعكس على أمن البحر الأحمر، واستقرار المنطقة برمتها، ولذلك مصر لا تقف فقط في مربع الوسيط، بل تسعى إلى تثبيت منطق "التوازن الإقليمي الرشيد" كبديل عن الفوضى المسلحة.