في لحظة تترنح فيها الأسواق العالمية بين مخاوف التضخم وتقلبات السيولة، اختارت مصر أن تعود إلى المسرح المالي الدولي بثقة، وبخطوة محسوبة بدقة، ترجمتها سندات دولية اجتذبت أنظار المستثمرين حول العالم، من خلال الإصدار الدولي للسندات المصرية في سوق اليوروبوند.
لم يكن الإصدار الذي طرحته مصر في يناير 2025 مجرد تحرك مالي اعتيادي، بل كان بمثابة اختبار حقيقي لثقة الأسواق في قدرة الاقتصاد المصري على الصمود واستعادة وضعه من جديد على خارطة التمويل العالمي، وإشارة واضحة إلى أن مصر، بعد سنوات من الغياب، باتت تمتلك القدرة على المنافسة في سوق لا يرحم إلا من يملك مصداقية الإصلاح وقوة التفاوض.
ترصد "الدستور" في التقرير التالي تفاصيل نجاح هذا الاصدار في تحقيق مستهدفات الدولة بدعم الخزانة العامة بالسيولة اللازمة للوفاء بالالتزماتها الداخلية والخارجية، وقدرته على جذب المستثمرين من خلال خطة ذكية لإدارة الدين، وذلك كله وفقا لما كشفه بيان الموازنة العامة عن العام المالي المرتقب 2025/2026، التي اقره البرلمان الأسبوع الماضي.
وحسب ما ورد بتقرير الموازنة الجديدة 2025/2026، فقد شهد الإصدار الدولي للسندات المصرية في سوق اليوروبوند خلال يناير 2025 إقبالًا ملحوظًا من قبل المستثمرين الأجانب، ليشكل نقطة تحول مهمة في مسار التمويل السيادي لمصر بعد أكثر من ثلاث سنوات من الغياب عن الأسواق الدولية، حيث جاء توقيت الطرح مثاليًا، مدفوعًا بتوافر السيولة في الأسواق العالمية وزيادة الطلب على أدوات الدين السيادي المصري.
وفي هذا السياق، أصدرت وزارة المالية سندات دولية بقيمة إجمالية بلغت ملياري دولار، موزعة على شريحتين لأجل 5 و8 سنوات. وقد تجاوزت طلبات الاكتتاب 10.5 مليار دولار، أي أكثر من خمسة أضعاف قيمة الإصدار المطروحة، في مؤشر قوي على ثقة المستثمرين العالميين في الاقتصاد المصري وبرنامج الإصلاح الاقتصادي الجاري تنفيذه، بينما تم الإغلاق عند 7.535 مليار دولار، بما يعادل نحو 3.8 مرة من حجم الإصدار، بعد أن تم تخفيض العائد عن المستويات الافتتاحية نتيجة للطلب القوي.
انخفاض العائد وتراجع تكلفة التمويل
تمكنت وزارة المالية من تقليص تكلفة التمويل بشكل لافت، حيث انخفض العائد على شريحة الخمس سنوات بنحو 62.5 نقطة أساس ليصل إلى 8.625%، فيما بلغ العائد على شريحة الثمان سنوات 9.45% بعد خفض قدر بـ50 نقطة أساس.
ويعد هذا التخفيض من بين الأكبر على مستوى الإصدارات الدولية منذ أغسطس 2024، مما يعكس قوة المركز التفاوضي لمصر وثقة المستثمرين المتزايدة في الاقتصاد المصري.
أقوى أداء في تاريخ الإصدارات المصرية
من أبرز المؤشرات الإيجابية لهذا الطرح هو التفاعل القوي في السوق الثانوي يوم الإصدار، حيث شهدت السندات الدولية المصرية نشاط شراء ملحوظ، ساهم في تحسين مستويات العائد حتى تاريخ الاستحقاق للسندات القائمة، ما أدى إلى انخفاض متوسط منحنى عوائد السندات الدولية بنحو 11 نقطة أساس عبر مختلف الآجال، في سابقة تُسجَّل لأول مرة في تاريخ إصدارات مصر الدولية.
تنوع المستثمرين واستقرار السوق
يأتي هذا الإصدار ضمن خطة الإصدارات الدولية لوزارة المالية للعام المالي الجاري 2024/2025، وقد حظي بمشاركة واسعة من فئات مؤسسية متنوعة شملت مديري الأصول، وصناديق التقاعد، والتأمين، والاستثمار، إلى جانب البنوك. وقد تم توجيه النسبة الأكبر من التخصيص إلى المستثمرين طويلِي الأجل، الأمر الذي يسهم في استقرار أسعار السندات المصرية في الأسواق العالمية.
رسالة ثقة واستراتيجية تمويل مستدامة
يعكس هذا الإصدار الناجح الرغبة المتجددة من المستثمرين الأجانب في العودة إلى الاستثمار في أدوات الدين المصرية، كما يؤكد على ثقتهم في قدرة الحكومة المصرية على إدارة الدين العام بكفاءة، وذلك في إطار التزام الدولة المستمر بتوسيع قاعدة التمويل وتنويع مصادره، بما يُعزز الاستدامة المالية ويدعم استقرار الاقتصاد الكلي.