فلسفتها ومفهومها في الفكر الإسلامي.. الهجرة إعلان مشروع حضاري وليست هروبًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

  تتجاوز الهجرة في السياق الإسلامي مجرد انتقال جغرافي فرضته الضرورة التاريخية، لتصبح فعلًا تأسيسيًا يحمل أبعادًا فلسفية وأخلاقية تتعلق بالتحول والنهضة. فحين نتأمل الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، نجد أنها لم تكن لحظة هروب من بطش، بل لحظة وعي استراتيجي بمسارات الواقع وخيارات تغييره. 

لقد مثّلت انطلاقة نحو بناء مجتمع جديد تتأسس فيه قيم العدل والحرية والانتماء للفكرة، لا للقبيلة أو السلطة التقليدية، وهو ما يكشف عن البعد العميق لهذا الفعل في سياق تشكّل الحضارة الإسلامية.

إن هذا الفهم المتجدد للهجرة يحرّرها من أسر الحكاية التاريخية ويعيد تقديمها بوصفها فعلًا إراديًا نابعًا من رغبة في التغيير الواعي، لا استجابة قسرية لضغوط الواقع. فالنبي لم يغادر مكة اضطرارًا، بل قرر، برؤية واعية، أن يؤسس لمركز حضاري جديد ينطلق من بيئة أكثر تقبّلًا للعدالة والاختلاف والتعايش. وهو ما تمثل في وثيقة المدينة التي رسّخت مفاهيم المواطنة والتعاقد السياسي، مؤذنة ببداية دولة قُيّدت فيها العصبيات وتمدد فيها مفهوم "الأمة" على أسس أخلاقية وإنسانية غير مسبوقة.

رمز دائم لإرادة التحول والارتقاء

ولا تتوقف دلالات الهجرة عند هذا الحد، بل تمتد إلى الفكر والفقه الإسلامي بوصفها رمزًا دائمًا لإرادة التحول والارتقاء. لقد تحولت الهجرة إلى نمط تفكير يُستعاد في كل لحظة تأزم، باعتبارها تجسيدًا للخروج من التبعية إلى الفاعلية، ومن الانغلاق إلى الوعي، ومن السكون إلى العمل. فالهجرة لا ترتبط بزمن بعينه، بل هي مشروع تحرري متجدد، يمكن أن يأخذ شكلًا روحيًا، أو معرفيًا، أو اجتماعيًا، يُعبّر فيه الإنسان عن رفضه للواقع المهترئ وسعيه إلى تأسيس بديل أكثر عدلًا وكرامة.

وفي زمننا الراهن، حيث تتراكم أزمات الهوية والكرامة والمعنى، تبرز الحاجة إلى استعادة مفهوم الهجرة كأداة للمقاومة الفكرية والروحية، وكآلية للانتقال من التهميش إلى التأثير. فالهجرة المعاصرة قد تكون خروجًا من ضيق الثقافة الاستهلاكية إلى فضاء الإنتاج المعرفي، أو من التديّن الشكلي إلى التدين الواعي، أو من الجمود السياسي إلى المشاركة. بهذا المعنى، فإن الهجرة ليست ذكرى نحتفي بها، بل مشروعًا نمارسه، ومرآة نعيد من خلالها صياغة علاقتنا بالواقع والتاريخ والمستقبل.

إعادة النظر في المفاهيم

عندما تُذكر "الهجرة" في السياق الإسلامي، يندفع الذهن تلقائيًا إلى الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، بوصفها لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي. غير أن هذا الربط المباشر بين الهجرة وبين الحدث التاريخي وحده غالبًا ما يحجب عمق الفكرة الفلسفية والهوياتية التي تنطوي عليها. فالهجرة، من حيث دلالتها الجوهرية، ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، وليست فعلًا دفاعيًا يُفرض على المؤمن فرارًا من بطش أو اضطهاد، بل هي خطوة استراتيجية تعكس وعيًا بالواقع وسعيًا إلى تغييره من الجذور.

في هذا الإطار، لا يمكن فهم الهجرة بوصفها هروبًا أو انسحابًا من المواجهة، بل هي فعل مؤسس لمشروع حضاري جديد، انطلق من رحم المعاناة والرفض، لا من منطق التكيّف أو الاستسلام. لقد أدرك النبي محمد ﷺ ومن معه من المؤمنين أن بقاءهم في مكة تحت القمع لا يتيح المجال لتحقيق غايات الرسالة الإسلامية، فجاء القرار بالانتقال، لا باعتباره نهاية، بل باعتباره بداية لصياغة واقع بديل أكثر اتساقًا مع قيم الرسالة وأهدافها الكبرى.

 تحرر من قيود البنية الاجتماعية والسياسية الظالمة

الهجرة بهذا المعنى تتجاوز الجغرافيا؛ فهي تمثّل تحررًا من قيود البنية الاجتماعية والسياسية الظالمة، وتوجّهًا نحو بناء بيئة جديدة يمكن فيها للإنسان أن يعيش كرامته، ويؤدي رسالته، ويمارس حريته في الاعتقاد والفكر والسلوك. وهذا ما جعل المدينة ليست فقط محطة للنجاة، بل ورشة لتأسيس مجتمع تعاقدي يتجاوز القبلية والعصبية، ويحتكم إلى القيم والمعايير لا إلى الأنساب والمصالح.

من هنا، تبدو الهجرة في الفهم الإسلامي الأصيل فعلًا يتجاوز الظرف الطارئ إلى التخطيط الواعي للمستقبل. إنها ليست ردة فعل، بل فعل مقصود يحمل في جوهره مشروعًا أخلاقيًا، يرتكز على السعي نحو العدالة، وبناء مجتمع يحتضن التعدد، ويكرّس قيمة الإنسان بوصفه خليفةً في الأرض. وهذا الفهم هو ما يجعل من الهجرة لحظة تأسيس حضاري، لا مجرد فصل في سيرة شخصية أو دينية.

ومن ثم، فإن استعادة مفهوم الهجرة اليوم لا يجب أن تقتصر على تكرار مرويّات الماضي، بل تتطلب إعادة قراءتها كرمز دائم للتجدد والتحرر والنهوض. فكل انتقال من الظلم إلى الحرية، من التبعية إلى الفاعلية، ومن الجهل إلى الوعي، هو في جوهره "هجرة" بالمعنى الحضاري، ما يجعل من هذا المفهوم أساسًا لتحليل حركة التاريخ الإسلامي، ومرآةً لفهم كيفية تشكل المشاريع الكبرى في حياة الأمة.

الهجرة كفعل إرادي لا كاستجابة قسرية

عند التأمل في مسار الهجرة النبوية، يتضح أنها لم تكن فعلًا عشوائيًا فرضته الظروف، بل كانت قرارًا مدروسًا نابعًا من رؤية استراتيجية بعيدة المدى. فالنبي محمد ﷺ لم يغادر مكة لأنه فقد القدرة على الصمود، بل لأنه أدرك أن البنية الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية في قريش لم تعد قابلة للإصلاح أو التغيير من الداخل. وبالتالي، كان الانتقال إلى المدينة خطوة ضرورية لبناء بديل يعكس القيم التي يدعو إليها الإسلام، في بيئة أكثر استعدادًا لاستيعاب هذا التحول.

الاختيار لم يكن هروباً من اضطهاد مكاني، بل انتقال فكري وسياسي نحو تأسيس مركز حضاري جديد. فالمدينة لم تكن مجرد مكان آمن، بل كانت ساحة مفتوحة لإعادة صياغة السلطة والمجتمع والعلاقات بين الأفراد على أسس مغايرة لتلك التي رسّختها مكة. وهذا ما يظهر في دقة التوقيت، وسرية التحركات، والتواصل مع زعماء المدينة، والتخطيط المدروس الذي سبق تنفيذ الهجرة، والذي يكشف عن عقلية واعية بطبيعة التحدي، لا عقلية تعيش على ردود الفعل.

كما أن النبي ﷺ لم ينتظر انتهاء الاضطهاد أو تغيّر الظروف المكية، بل بادر بإعادة تشكيل المشهد السياسي والدعوي من موقع جديد. فالهجرة كانت قطيعة مع مرحلة المقاومة السلبية، وبداية لمرحلة المبادرة الفاعلة، وقد رافقها انتقال في خطاب الدعوة وأدواتها، من دعوة خافتة محدودة في مكة، إلى مشروع اجتماعي مفتوح في المدينة، يخاطب مختلف المكوّنات، ويحتضن التنوع الديني والقبلي.

 

وثيقة المدينة

 

وقد تمثلت أولى تجليات هذا التحول في إرساء معالم التعايش المشترك من خلال "وثيقة المدينة"، التي أسست لنموذج غير مسبوق في ذلك العصر من التنظيم السياسي والحقوقي. فهذه الوثيقة لم تكن مجرد اتفاق أمني، بل عقد اجتماعي جديد، يعترف بالمواطنة بغض النظر عن الدين أو النسب، ويحدد الحقوق والواجبات ويمنح الجميع حق المشاركة في القرار والدفاع المشترك. وهي بذلك تمثل نقطة الانطلاق الحقيقية لمشروع الدولة الإسلامية بمعناها المؤسساتي.

من هنا، يمكن القول إن الهجرة المحمدية جسّدت الوعي الكامل بالتحولات اللازمة لتجاوز مرحلة الانغلاق والاضطهاد، نحو فضاء مفتوح للمشاركة والتأسيس. لقد كانت الهجرة إعلانًا واضحًا بأن التغيير لا يُنتظر، بل يُصنع، وأن مواجهة الاستبداد لا تقتصر على مقاومته داخل حدوده، بل قد تتطلب أحيانًا مغادرته لتأسيس نموذج حيّ يفضحه ويضعه في موضع المقارنة. وهذا ما فعله النبي ﷺ عندما ترك مكة ليبني من المدينة منارة حضارية جديدة.

 

الهجرة باعتبارها "تحولًا حضاريًا"

 

لم تكن الهجرة النبوية مجرد خروج من بيئة مكيّة مغلقة نحو فضاء مدني أرحب، بل كانت لحظة فارقة في التحول من مجتمع تقليدي يُدار بعصبيات القبيلة إلى مجتمع مدني يُبنى على أسس عقلانية وتعاقدية. فالهجرة مثلت انفكاكًا واعيًا من منظومة القيم الجاهلية التي كانت تقوم على الثأر، والنسب، والولاء للقبيلة، لتحلّ محلها منظومة قيمية جديدة قوامها الإيمان، والعدل، والانتماء للعقيدة والفكرة.

في مجتمع ما قبل الهجرة، كان الانتماء يتم بالوراثة والدم، أما بعد الهجرة، فأصبح الانتماء اختياريًا، يقوم على القبول الواعي بمبادئ الشريعة، ويُفعّل عبر التعاقد الاجتماعي. وهذا ما يُفسّر كيف استطاعت المدينة أن تحتضن طيفًا واسعًا من الهويات المختلفة – من المسلمين المهاجرين والأنصار، إلى اليهود والمشركين – ضمن بنية قانونية تضمن العدالة والاحترام المتبادل، دون أن تذيب الفوارق أو تفرض التجانس القسري.

 

"الأمة" لا "العشيرة"

 

لقد أسست الهجرة لوعي حضاري جديد، تتقدمه فكرة "الأمة" لا "العشيرة"، وهو مفهوم ثوري آنذاك. فبينما كانت المجتمعات تُبنى حول المصالح القبلية والموروثات الاجتماعية، جاء الإسلام ليقدّم تصوّرًا أوسع عن الجماعة الإنسانية، يتأسس على العقيدة المشتركة لا على الدم، وعلى المسؤولية الجماعية لا على التفاخر بالنسب. فـ"الأمة" التي بدأت تتشكل في المدينة كانت أول وحدة سياسية وفكرية عابرة للقبائل.

الهجرة أيضًا كانت بمثابة تحدٍّ للمركزية المكيّة التي اختزلت السلطة والشرعية في بيت قريش. بمجرد انتقال النبي ﷺ إلى المدينة، لم يعد لمكة وحدها الحق في قيادة الجزيرة العربية دينيًا أو اجتماعيًا. فثمة مركز جديد نشأ، يتجاوز مكة رمزيًا، ويؤسس لنظام بديل، يعتمد على مفاهيم الشورى، والمواطنة، والعدل. وهذا التحول هو ما مهّد لاحقًا لتوسّع الإسلام خارج حدود الجزيرة، لأن المدينة قدمت نموذجًا قابلًا للتكرار لا يعتمد على أصول محلية مغلقة.

ويمكن القول إن الهجرة دشّنت بداية العقل الحضاري في الإسلام، حيث أصبحت السياسة فعلًا أخلاقيًا، والاجتماع البشري مجالًا للتنظيم لا للفوضى، والاختلاف عنصر غنى لا عنصر تهديد. هذا التحول لم يكن نتيجة لحظة عاطفية أو اضطرارية، بل هو ثمرة وعي تاريخي عميق بمستلزمات النهضة، وأحد أبرز أسباب قدرة الإسلام على التوسع لاحقًا بوصفه مشروعًا مدنيًا عالميًا، لا عقيدة محصورة في إطار قبلي أو ثقافي ضيق.

الهجرة كمنهج دائم في الفقه والفكر

في سياق الفكر الإسلامي، لم تُختزل الهجرة في بعدها الزمني أو الجغرافي، بل تطورت إلى مفهوم دائم وحيّ، يُستعاد في كل مرحلة من مراحل الوعي والمراجعة والتحوّل. فهي ليست مجرد واقعة أُنجزت في لحظة زمنية، بل تحوّلت إلى نمط تفكير ومرجعية أخلاقية تتكرر في حياة الفرد والأمة كلما ضاقت السبل، أو تعطّلت القيم، أو انغلق الواقع على إمكانيات النهوض. بهذا المعنى، أصبحت الهجرة رمزًا لإرادة التغيير المستمر، لا لحظة استثنائية في الماضي.

حديث النبي ﷺ: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» يُفهم في ضوء تطور مفهوم الهجرة من انتقال جسدي إلى حالة وجدانية وعقلية. 

فالفتح أغلق باب الهجرة بمعناها المكاني من مكة إلى المدينة، لكنه لم يغلق دلالاتها المعنوية والروحية. وقد فسّر علماء كثر هذا الحديث باعتباره انتقالًا من فكرة الخروج من المكان إلى الخروج من الحالة، ومن ترك المكان الظالم إلى اجتثاث الظلم من داخل الذات والمجتمع. بهذا المعنى، تصبح الهجرة مستمرة ما دامت هناك حاجة للارتقاء والتحرر من القيود.

الهجرة في الفقه والفكر أيضًا تشير إلى قدرة الإنسان المسلم على رفض التماهي مع الباطل، والبحث الدائم عن بيئة تسمح له بتحقيق إنسانيته وديانته وقيمه. فكل من يُجبر على الصمت في وجه الاستبداد، أو يُمنع من أداء شعائره، أو يُسحق تحت نظم الظلم، يكون في موقع يستدعي منه "الهجرة"، ولو بمعناها الرمزي: هجرة من الذل إلى الكرامة، ومن السكون إلى الفعل، ومن التبعية إلى الحرية. ولهذا نجد أن بعض الفقهاء قد أجازوا الهجرة حتى في العصور اللاحقة، كلما استحال العدل واستحال معه العيش الكريم.

 

هجرة إلى الله بالعبودية وهجرة إلى رسوله بالاتباع

 

ابن القيم، وهو من أبرز منظّري البُعد الروحي في الفقه، لخّص هذا التحول العميق حين قال: "الهجرة هجرتان: هجرة إلى الله بالعبودية، وهجرة إلى رسوله بالاتباع".. وهنا ترتقي الهجرة من فعل جغرافي إلى حالة وجدانية خالصة، تُعبر عن الاتجاه الكلي للإنسان في حياته. الهجرة إلى الله تعني تطهير النية والتوجه إلى الخالق في كل شأن، والهجرة إلى الرسول تعني محاكاة سنّته في التعامل مع الواقع، وتحقيق مبادئه في الإصلاح والتغيير دون انكفاء أو تردد.

ومن هنا يتبين أن الهجرة ليست حكرًا على زمن معين أو جيل بعينه، بل هي تجلٍ مستمر لفكرة "الانتقال من الأسوأ إلى الأفضل"، أيًّا كان شكل هذا الانتقال. فقد يهاجر الإنسان من الجهل إلى الوعي، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الفردانية إلى المسؤولية الجماعية. هي فعل داخلي قبل أن تكون تحركًا خارجيًا، وهي جزء من مشروع تربية النفس، وإعادة توجيه البوصلة الفكرية والروحية، ما يجعل منها ضرورة متجددة في كل عصر يشهد انحرافًا عن قيم الحق والعدل.

دلالات الهجرة فى سياقنا المعاصر

بهذا المعنى، تصبح الهجرة المعاصرة قفزة نوعية في الزمان قبل أن تكون انتقالًا في المكان؛ انتقالًا من زمن الانكسار إلى زمن المبادرة، ومن عصر الانغلاق إلى أفق الانفتاح. إنها دعوة لأن نُعيد النظر في مواقفنا، وعلاقاتنا، ومفاهيمنا، وأن نعيد ترتيب أولوياتنا بما يليق بكرامة الإنسان وحريته. فكما أن الهجرة النبوية أسست بداية لمرحلة جديدة في التاريخ، فإننا اليوم بحاجة إلى هجرات واعية تُعيد توجيه البوصلة نحو مستقبل أكثر إنسانية وعدلًا وصدقًا. 

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق وزير الخارجية يشدد على أهمية وقف التصعيد بين إسرائيل وإيران
التالى «جولة دبلوماسية جديدة».. وزير خارجية إيران يزور مصر ولبنان الأسبوع المقبل