عندما غرد إيلون ماسك بجملة مقتضبة تقول: "The beams are on" – في إشارة إلى تفعيل أقمار ستارلينك لتوفير خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية فوق إيران – لم يكن ذلك إعلانًا تقنيًا بريئًا، بل بدا الأمر أقرب إلى رسالة سياسية مشفّرة، تختصر تحوّل الإنترنت من أداة اتصال إلى ورقة ضغط في صراع النفوذ العالمي. فهذه ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها ماسك شبكة ستارلينك كذراع جيوسياسية، لكن دخول إيران إلى المشهد يرفع مستوى الرهان إلى مستويات غير مسبوقة.
من الناحية الإنسانية، قد يبدو توفير الإنترنت لشعب محاصر رقميًا بادرة نبيلة لكنها لا تعكس القصة الكاملة، بل ما يفعله ماسك هو توظيف التكنولوجيا في رسم ملامح نظام عالمي جديد، لا تحكمه فقط الدول، بل يتحكم فيه أيضًا أباطرة الشركات العابرة للحدود.
ستارلينك - بمنطق السوق - ليست خدمة عامة، بل منصة خاصة يملكها فرد واحد، بات يملك القدرة على إيصال الإنترنت أو قطعه، وفق حسابات لا تخضع للمجالس التشريعية أو المؤسسات الدولية، بل لمزاجه وتقديراته الخاصة، هذه السلطة الرقمية المطلقة تضع ماسك في موقع يتجاوز حدود ريادة الأعمال، ليصبح لاعبًا في الساحة الجيوسياسية، يمتلك من النفوذ ما يعادل ما تملكه بعض الدول.
اللافت أن توقيت إعلان تشغيل ستارلينك فوق إيران لم يكن عفويًا، بل جاء بالتزامن مع تصعيد عسكري إقليمي بين إسرائيل وإيران، ووسط موجة من الغموض والتوتر.
في لحظة كهذه، حيث تحاول الدول احتواء الأزمة أو إشعالها، يقرر ماسك أن يدخل اللعبة، لا من باب السياسة التقليدية، بل عبر القبة الرقمية،هنا يصبح السؤال: هل جاء هذا التدخل بدافع أخلاقي فعلًا، أم أنه جزء من استراتيجية مدروسة لفرض النفوذ في واحدة من أكثر مناطق العالم تعقيدًا؟
والأكيد أنه لا يمكن فصل ما حدث في إيران عن التجارب السابقة فقد استخدم ماسك ستارلينك سابقًا لدعم أوكرانيا ضد روسيا، ومُنع لاحقًا من استخدامه في بعض العمليات العسكرية خوفًا من التصعيد النووي، كذلك، حاول التدخل في البرازيل بدوافع تتعلق بحرية التعبير، وواجه اتهامات باستغلال نفوذه لخدمة أجندات معينة.
هذا النمط من التدخل المتكرر يعكس تحوّل ستارلينك من مشروع تجاري إلى أداة ضغط ذات بعد استراتيجي، يمكن استخدامها لتقويض الأنظمة أو دعم حركات معينة، وكل ذلك تحت غطاء "الحرية الرقمية".
من الناحية الاقتصادية، فإن تعزيز موقع ستارلينك في الأزمات الدولية يمنح الشركة قيمة تسويقية وسياسية مضاعفة في عالم يشهد سباقًا على النفوذ التكنولوجي، يصبح كل قمر صناعي أداة تفاوض، وكل حزمة بيانات ورقة ضغط، وماسك الذي يجيد التلاعب برمزية الصورة كما يجيد هندسة الصواريخ، يدرك تمامًا أن الظهور بمظهر "محرر الشعوب من الرقابة" يعزز موقعه أمام الرأي العام العالمي، كما يفتح له أبواب التفاوض مع الحكومات الكبرى.
قد يكون من المغري أن نصف ما قام به ماسك بـ"الخطوة الجريئة"، لكنه في الواقع خطوة محفوفة بالتعقيدات والمخاطر، فالحرية الرقمية لا يمكن أن تُمنح بقرار فردي، ولا يجب أن تعتمد على حسن نية ملياردير، بل يجب أن تُبنى على نظام عالمي عادل، يضمن للجميع حق الوصول للمعلومة دون ابتزاز، ودون وصاية، أما ما نراه اليوم، فهو فصل جديد من صراع السلطة في عصر الأقمار، تلعب فيه الشركات أدوار الدول، وتُختزل فيه السيادة الوطنية في تغريدة من ثلاث كلمات.