في خضم الأزمة الاقتصادية التي تشهدها مصر، لم تعد تداعيات الغلاء وارتفاع الأسعار مقصورة على الأسواق والمعاملات المالية فقط، بل امتدت آثارها العميقة لتضرب واحدة من أهم ركائز المجتمع: الأسرة. فقد انعكست الأوضاع الاقتصادية المتأزمة بشكل مباشر على معدلات الزواج والطلاق، لتكشف عن تحولات مقلقة في بنية المجتمع المصري وقيمه الاجتماعية.
صرّح الدكتور ياسر حسين ، الخبير الاقتصادي ، أن تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر في الوقت الراهن لا تقتصر على الجوانب المالية والأسواق، بل امتدت لتُصيب نسيج المجتمع نفسه، وبالأخص الأسرة، نواة البناء الاجتماعي والاقتصادي، موضحًا أن تراجع معدلات الزواج وارتفاع تكاليف الارتباط باتا من أبرز ملامح تلك التأثيرات، إلى جانب التذبذب في معدلات الطلاق.
وأشار حسين إلى أن الأرقام الرسمية تكشف بدقة عن هذا الواقع، حيث بلغت معدلات الزواج في مصر 9 في الألف عام 2022، ثم ارتفعت هامشيًا إلى 9.1 في الألف عام 2023، وهو معدل يُعد منخفضًا نسبيًا بالنظر إلى حجم الفئة العمرية الشابة في مصر.
أما معدلات الطلاق النهائي الموثّق رسميًا، فقد انخفضت بشكل طفيف من 2.6 في الألف عام 2022 إلى 2.5 في الألف عام 2023، إلا أن هذا الانخفاض لا يعكس بالضرورة تحسنًا في استقرار الحياة الزوجية، بل ربما يشير إلى تردد بعض الأزواج في اتخاذ خطوة الطلاق بسبب أعبائه المادية والاجتماعية.
وأضاف: "هناك مظاهر مقلقة في المجتمع يجب أن تُناقش بصراحة، منها عزوف واضح ومتزايد لدى الشباب من الجنسين عن الزواج، إلى جانب ارتفاع متوسط أعمار المتزوجين حديثًا، ما يُعبّر عن أزمة حقيقية تتعلق بإمكانية تأسيس الأسرة في ظل الظروف المعيشية الراهنة. إن السكوت عن هذه الظواهر يُعد مخاطرة ببنية المجتمع واستقراره الاقتصادي والأمني".
وأوضح الدكتور حسين أن أزمة الزواج في مصر لا ترتبط بالعزوف الإرادي أو التفضيل الشخصي بقدر ما ترتبط بحالة من العجز أمام التحديات الاقتصادية؛ فالزواج اليوم – سواء من حيث التمليك أو الإيجار – أصبح مشروعًا ماليًا مرهقًا، يتطلب موارد ضخمة تفوق قدرة معظم الشباب وأسرهم.
وقال: "تكاليف تأسيس عش الزوجية أصبحت غير محتملة. من شراء المسكن أو تأجيره، إلى تجهيزاته الأساسية من أثاث وأجهزة كهربائية، إلى أبسط مظاهر الاحتفال كالصور والموسيقى. حتى 'الشبكة' – كعنصر رمزي وتقاليد راسخة – أصبحت عبئًا ماليًا كبيرًا، خاصة في ظل وصول سعر جرام الذهب عيار 24 إلى 5611 جنيهًا، وعيار 21 إلى 4910 جنيهات، وعيار 18 إلى 4209 جنيهات، وسعر الجنيه الذهب إلى نحو 39280 جنيهًا".
وأكد حسين أن الزواج لا يمثل فقط غاية اجتماعية أو دينية، بل هو أيضًا محرك اقتصادي رئيسي، مشيرًا إلى أن كل زيجة تُحرك قطاعات اقتصادية متعددة بدءًا من تجار الذهب والملابس والأحذية والحلوى والمشروبات ومستحضرات التجميل، إلى قاعات الأفراح ومراكز التصوير والفنانين، وحتى قطاعات العقارات والسيارات.
وتابع: "كل خطوة في تأسيس عش الزوجية ترتبط بدورة اقتصادية كاملة تشمل مهندسين، فنيين، عمال بناء، نجارين، كهربائيين، ومزودي خدمات، وصولًا إلى تجار الأثاث والأجهزة المنزلية والإلكترونيات والمفروشات، وقطاع النقل والمقاولات. هذه المنظومة تعتمد على سلاسل إمداد صناعية وتجارية وزراعية مترابطة، ما يعني أن انخفاض معدلات الزواج يُضعف من نشاط عشرات القطاعات الاقتصادية".
وأكد أن الحفاظ على استقرار الأسرة لا يقل أهمية عن تأسيسها، فالطلاق والانفصال يخلّفان خسائر اجتماعية واقتصادية عميقة تطال الزوجين والأبناء وأسرهم على حد سواء. وتابع: "الطلاق، رغم كونه حلاً شرعيًا، يُعد من أبغض الحلال، وغالبًا ما يكون قابلاً للتفادي إذا تم تأسيس العلاقة على اختيار جيد ووعي اقتصادي واجتماعي متبادل".
وفي ختام تصريحاته، دعا الدكتور ياسر حسين إلى ضرورة أن تولي الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية والإعلامية هذا الملف أهمية قصوى، باعتباره قضية أمن قومي تتعلق بمستقبل الأسرة المصرية، من خلال تقديم تسهيلات حقيقية لدعم المقبلين على الزواج، ومراجعة آليات التمويل العقاري، وتوسيع شبكات الدعم الاجتماعي، إلى جانب إطلاق حملات توعية لترشيد الإنفاق المرتبط بالزواج دون المساس بالفرحة أو كرامة الطرفين