تتبعنا فى المقال السابق مرحلة النشأة والتكوين لأحمد حمروش، الذى يمكن النظر إليه على أنه نموذج للطبقة الوسطى الصغيرة المصرية، فى النصف الأول من القرن العشرين، وهى الطبقة التى- بكل تحولاتها وتناقضاتها- ستُشَكِّل النواة الأساسية لجيل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢.
رأينا نشأة حمروش فى أسرة دينية، لها جذور ريفية، لكنها تعيش فى حى مدينى، هو حى شبرا فى القاهرة، وهو بالفعل حى المهاجرين آنذاك، سواء من الريف المصرى أو حتى من شرق البحر المتوسط، هؤلاء كانوا بالفعل جزءًا أصيلًا من الطبقة الوسطى الصغيرة فى مصر آنذاك.
رأينا تحول أحمد حمروش إلى التعليم المدنى، ليصبح من الأفندية، مع أنه من أسرة من الشيوخ المُعمّمين. كما شاهدنا انتماء حمروش وهو على مقاعد الدراسة الثانوية، مثله مثل الكثير من أبناء جيله، إلى جماعة «مصر الفتاة» ذات الميول الوطنية الفاشية، نتيجة الانبهار آنذاك بتجربة موسولينى فى إيطاليا. لكن هذا الانبهار بموسولينى سوف يتلاشى رويدًا رويدًا لدى حمروش، وبعض أبناء جيله، مع هزيمة المحور فى الحرب العالمية الثانية.
ويوضح حمروش ذلك جليًا عندما يقول فى مذكراته: «كانت انتصارات المحور قد بدأت تنحسر، ويثير إعجابنا انتصارات الحلفاء، خاصة الاتحاد السوفيتى، حيث بدأنا نُطالع فى إعجاب شديد بطولة الشعب هناك، فى لينينجراد وستالينجراد وموسكو، وغيرها». هكذا يبدأ التحول الكبير لجناح لا بأس به من الطبقة الوسطى الصغيرة المصرية نحو التجربة الشيوعية للاتحاد السوفيتى. ويبدأ حمروش، وليد الأسرة الدينية الأزهرية، وعضو جماعة مصر الفتاة الفاشية، فى التحول لتجربة سياسية جديدة، وهى الانتماء إلى الحركة الشيوعية المصرية.
المثير للانتباه فى هذه التجربة أن انتماء حمروش للتنظيمات السرية الشيوعية سيتم وهو ضابط فى الجيش المصرى؛ إذ سيبدأ ذلك بالانتماء إلى تنظيم شيوعى صغير هو تنظيم «القلعة»، ومع وحدة التنظيمات الشيوعية المصرية سيصبح حمروش من قيادات قسم الجيش فى التنظيم الشيوعى الشهير «حدتو»، أى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى، هذا القسم الذى نجح فى تجنيد عشرات الضباط وصف الضباط بين صفوفه، وأشهرهم خالد محيى الدين ويوسف صديق.
وهنا ينبغى الإشارة إلى أن حالة «حدتو» لم تكن الحالة الفريدة بين التنظيمات السرية؛ إذ أنشأت جماعة الإخوان المسلمين آنذاك قسم الجيش بها، الذى ضم العديد من ضباط وضباط الصف، وبعضهم سيصبح من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، بل مجلس قيادة الثورة مثل: عبدالمنعم عبدالرءوف وكمال الدين حسين، وغيرهما.
ويوضح لنا ذلك حالة التفسخ وبدايات انهيار النظام فى مصر، خاصة فى الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية ١٩٤٥، وحرب ٤٨، وصولًا إلى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، لكنه يشير أيضًا إلى مناخ الحرية السياسية النسبى، الذى يسمح وبشكل ما بتسييس المجال العام، حتى الجيش، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه التنظيمات كانت سرية، لكنها فى الحقيقة لم تكن سرية مطلقة، لكن تغير الوزارات ذات الانتماءات السياسية المختلفة، من سعدية إلى وفدية، إلى وزارات أقلية ملكية، ساعد فى استمرارية، بل ونمو، هذه الظاهرة. وفى الحقيقة هناك تشابه بين هذا الوضع وما كان يحدث فى الجيوش العربية الوليدة، لا سيما فى العراق وسوريا والسودان بعد ذلك، وساعد فى ذلك أنها فترة مواجهة الاستعمار وعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
هكذا كان تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بحركة الجيش، أو الحركة المباركة فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، يضم بين صفوفه مختلف ألوان الطيف السياسى الأيديولوجى الجديد، ومنهم حمروش، وكان كذلك تعبيرًا عن رؤية وطموحات الطبقة الوسطى الصغيرة.