لا تبحث إيران اليوم عن نصر عسكري حاسم، بل عن اتفاق يُنقذ مشروعها الإقليمي ويُبقي النظام قائمًا — حتى لو كان على قارب مثقوب يوشك أن يغرق. وهي تدرك تمامًا أن عامل الوقت ليس في صالحها: العقوبات الخانقة، العزلة الدولية المتزايدة، والتقدم المستمر لأعدائها على المستويين العسكري والتكنولوجي. تبقى الحرب الشاملة ورقتها الأخيرة، ولن تلجأ إليها إلا إذا وجدت نفسها مهددة بالزوال الكامل.
في المقابل، تُمسك الولايات المتحدة بمقود المشهد الإقليمي. من مقعد القائد الحذر، تراقب واشنطن كيف يُعاد تشكيل المنطقة وفق أولوياتها، دون الحاجة إلى إرسال جنود أو شنّ حرب مباشرة. هدفها واضح: فرض اتفاق نووي جديد بشروط أشد صرامة،
بعد أن جُرّدت إيران من الكثير من أوراقها وأُنهكت مواردها — والطاولة الجديدة نُصبت فوق أنقاض نطنز وفوردو. الرهان الأمريكي يقوم على دفع إيران إلى التوقيع تحت الضغط، مع إبقاء الخيار العسكري في الخلفية كورقة ردع. أما إسرائيل، فتُكمل هذا الضغط عبر تفوق استخباراتي واختراقات عملياتية تجعل طهران تتوجس من ضربة في كل لحظة.
ومع ذلك، إيران ليست خصمًا يُستهان به. هي دولة عنيدة، تمتلك خبرة طويلة في “الصبر الاستراتيجي”، وتعرف متى تتقدم، متى تتراجع، ومتى تماطل. تدرك أن ميزان القوة ليس في صالحها حاليًا، لكنها لا تنوي الركوع بسهولة.
بل ستلعب على ثلاث أوراق متداخلة: الورقة السرّية في قدرتها على الرد غير التقليدي، فرغم سنوات من المراقبة والضغوط لا تزال واشنطن وتل أبيب تجهلان الكثير عن قدرات إيران غير المعلنة، من منشآت التخصيب الخفية إلى شبكات العمليات في العراق وسوريا واليمن، وأذرعها في بحر العرب، حيث يبقى جزء مهم بعيدًا عن أعين الأقمار الصناعية وعمليات الاستخبارات.
والورقة السياسية التي تقوم على اللعب على حافة التصعيد عبر احتمال إعلان انسحاب جزئي أو كامل من الاتفاقيات النووية، أو التلويح بإغلاق مضيق هرمز، أو إطلاق تهديدات مبطنة تجاه الداخل الإسرائيلي بهدف إبقاء الخصوم تحت ضغط سياسي واقتصادي مع الرهان على تغير المزاج الدولي.
أما الورقة الأهم فهي الرهان على الزمن، إذ تدرك طهران أن أعداءها الحقيقيين ليسوا واشنطن أو تل أبيب وحدهما، بل الزمن نفسه: العقوبات، العزلة، وتآكل الداخل الإيراني، لكنها تراهن على احتمال تغيّر الإدارة الأمريكية أو بروز أزمات عالمية جديدة (اقتصادية، أمنية، أو صراعات كبرى في مناطق أخرى) قد تعيد ترتيب أولويات الغرب وتمنحها مساحة جديدة للمناورة.
السيناريو الأقرب هو تصعيد مدروس من جميع الأطراف، حيث ستواصل إيران رفع مستوى التخصيب تدريجيًا مع إطلاق تهديدات سياسية محسوبة دون أن تُشعل حربًا مباشرة، وستفعّل أذرعها في المنطقة من خلال هجمات بالوكالة في العراق وسوريا أو عبر الحوثيين في البحر الأحمر، بهدف تذكير واشنطن وحلفائها بقدرتها على الإزعاج الإقليمي،
فيما ستزيد الولايات المتحدة من ضغوطها الاقتصادية وتُكثّف العمل الاستخباراتي مع إبقاء مسار التفاوض مفتوحًا ولكن بشروط أكثر صرامة لدفع طهران إلى الجلوس إلى الطاولة من موقع ضعف، بينما ستواصل إسرائيل تطبيق سياسة “المعركة بين الحروب” من خلال تنفيذ عمليات نوعية واغتيالات علمية وهجمات سيبرانية وضربات دقيقة لمواقع السلاح الإيراني في سوريا ولبنان.
أما السيناريو الأكثر خطورة، لكنه الأقل احتمالًا في المدى القريب، فهو تعرّض النظام الإيراني لـ”صفعة كبرى”: فشل المفاوضات الشاملة يليه ضربة عسكرية دقيقة تستهدف مرافق حيوية (قد تكون مفاجئة وشاملة)، بالتوازي مع اضطرابات داخلية تُضعف النظام من الداخل.
في هذا السيناريو، سيكون الخطر الأكبر على النظام نفسه، وليس فقط على مشروعه الإقليمي. لكن إيران تستعد لهذا الاحتمال عبر شبكات داخلية قوية وأجهزة قمع فعّالة. عندئذٍ، يصبح مستقبل إيران مرهونًا ليس فقط بقرارات واشنطن أو تل أبيب، بل بقدرة النظام على احتواء الشارع الإيراني نفسه.
المعركة الحقيقية ما زالت في بداياتها. طهران لن توقّع على اتفاق مذلّ، ولن تخوض حربًا شاملة خاسرة. أمامها خيار واحد: التصعيد المدروس، والمراهنة على تغيّر الزمن. غير أن الزمن نفسه… قد لا يكون في صفها هذه المرة.
هل تسقط إيران؟ ربما… لكن ليس الآن. متى؟ وبأي ثمن؟ هذا ما لا يستطيع أحد أن يجزم به اليوم.