في خضم التصعيد العسكري المتواصل في المنطقة، تعالت الأصوات الإسرائيلية المنددة بالقصف الإيراني الذي استهدف مواقع داخل إسرائيل، من بينها منشآت تصفها تل أبيب بأنها "مدنية"، بما في ذلك مراكز علمية ومطارات مدنية جزئيًا.
ورغم أن إسرائيل تعتبر أي استهداف لمواقعها المدنية انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، فإن سجلها الحافل باستهداف منشآت مدنية، من مستشفيات ومدارس إلى مراكز إيواء ومخيمات لاجئين، يطرح تساؤلات جوهرية حول تناقض الخطاب الإسرائيلي وازدواجية المعايير في توصيف الأهداف "المشروعة" في الحرب.
ويمثل هذا التناقض في السردية الإسرائيلية أحد أبرز مظاهر الازدواج في المعايير ضمن الصراع الإقليمي؛ إذ تبرر قصف مستشفى أو مدرسة في غزة بزعم وجود عناصر مسلحة، بينما تدين بشدة أي قصف إيراني لموقع داخل إسرائيل دون تقديم رواية كاملة أو توثيق دقيق للخسائر.
وبينما تواصل إسرائيل عملياتها دون رادع حقيقي، تبقى الحاجة ملحة إلى مساءلة قانونية وإعلامية عادلة، تضع الجميع أمام معايير واحدة لا تُقاس بالتحالفات أو موازين القوى.
السردية الإسرائيلية حول "الحق في الدفاع"
منذ سنوات، ترتكز الدعاية الإسرائيلية على خطاب مكرس لـ"الحق في الدفاع عن النفس"، تبرر من خلاله كل ضرباتها، سواء كانت موجهة إلى أهداف عسكرية أو مناطق مأهولة بالمدنيين. وعند تعرض أي موقع داخل إسرائيل لهجوم، يُروّج بأن الهدف "مدني بحت"، ويُستخدم الخطاب الإنساني لجلب تعاطف دولي وإدانة الخصم، خاصة إذا تعلق الأمر بمنشآت مثل المطارات أو مراكز الأبحاث.
في المقابل، عندما تنفذ إسرائيل ضربات جوية تستهدف مستشفيات أو مدارس أو أبنية سكنية بحجة وجود "نشاط عسكري"، فإنها تحمّل الفصائل الفلسطينية أو القوى المستهدفة المسؤولية الكاملة، بزعم أنها "تستخدم المدنيين دروعًا بشرية". هذا التناقض يعكس نزعة انتقائية في تفسير القانون الدولي الإنساني، إذ يُمنح لنفسها ما تُنكره على غيرها.
سجل حافل بقصف المنشآت المدنية
على مدار عقود، وبشكل خاص في حروبها ضد غزة ولبنان، وثّقت منظمات دولية عديدة – مثل "هيومن رايتس ووتش" و"أمنستي" و"مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة" – عشرات الهجمات الإسرائيلية على منشآت مدنية وطبية وتعليمية، نذكر منها:
قصف مستشفى الشفاء في غزة أكثر من مرة، كان آخرها في حرب 2023، حيث زعمت إسرائيل وجود "غرف عمليات" لحماس داخله، رغم غياب أي دليل ميداني حيادي يؤكد ذلك.
استهداف مدرسة الفاخورة التابعة للأونروا في جباليا عام 2009، ما أسفر عن مقتل عشرات المدنيين، بينهم أطفال لجأوا إليها هربًا من القصف.
قصف مستشفى "الوردة البيضاء" في جنوب لبنان عام 2006، رغم أنه كان مؤشّرًا عليه بوضوح كمنشأة طبية.
استهداف أبراج إعلامية في غزة، كما حدث في مايو 2021 حين تم تدمير برج الجلاء الذي يضم مكاتب وكالة "أسوشيتد برس" والجزيرة.
في كل هذه الحالات، برّرت إسرائيل قصفها بوجود "نشاط استخباراتي" أو "قيادات مختبئة"، ولكن دون تقديم أدلة شفافة تُقنع الرأي العام الدولي.
صمت المجتمع الدولي وانتقائية التغطية الإعلامية
المفارقة أن المجتمع الدولي، وخصوصًا بعض العواصم الغربية، يتعامل بانتقائية صارخة مع السردية الإسرائيلية، متجاهلًا حجم الضحايا المدنيين في الضربات الإسرائيلية، مقابل تضخيم كل هجوم مضاد على إسرائيل، حتى لو لم يسفر عن خسائر بشرية. ويُلاحظ أن التغطية الإعلامية الغربية تتبنى، في كثير من الأحيان، لغة ناعمة في وصف الضربات الإسرائيلية ("ردود"، "استهدافات"، "قصف نوعي")، بينما تُوصف الضربات الإيرانية أو الفلسطينية بأنها "عدوان"، "إرهاب"، أو "قصف عشوائي".
قصف إيران وإشكالية الخطاب المضاد
عندما تعرضت إسرائيل في الأيام الأخيرة لقصف مباشر من إيران، بما في ذلك استهداف ما زُعم أنه منشآت عسكرية، ردّت تل أبيب بتسويق خطاب يركّز على "تعريض المدنيين للخطر"، وتقديم نفسها كضحية عدوان غير مبرر. هذا الخطاب يتجاهل أن تل أبيب كانت قد بدأت موجة اغتيالات داخل الأراضي الإيرانية، واستهدفت مواقع يُعتقد أنها حساسة علميًا وأمنيًا، بينها منشآت نووية غير معلنة.
ما يُظهره هذا السلوك هو رغبة إسرائيل في احتكار شرعية القوة، وفرض تعريفها الخاص لما يُعد "هدفًا مشروعًا"، في الوقت الذي تجرّم فيه الطرف الآخر عند محاولته الرد بالمثل أو كسر احتكار الردع.