خلال الصراع الدائر فى غزة، كشف تحقيق أجرته صحيفة نيويورك تايمز عن روايات مقلقة عن جنود إسرائيليين أجبروا المعتقلين الفلسطينيين على العمل كدروع بشرية. هذه الممارسات، التى تنطوى على إرسال الفلسطينيين الأسرى إلى بيئات خطرة، غير قانونية بموجب القانون الإسرائيلي والدولي.
تُسلط هذه الكشوفات الضوء على التكتيكات الوحشية التى تستخدمها القوات الإسرائيلية لتقليل المخاطر التى تهدد قواتها على حساب أرواح الفلسطينيين، وهو انتهاك لاتفاقيات جنيف التى تحظر مثل هذه الأعمال.
مهمة محفوفة بالمخاطر.. الدروع البشرية في غزة
شارك جنود إسرائيليون ومعتقلون فلسطينيون سابقون روايات مباشرة تكشف عن استخدام المدنيين الفلسطينيين والأفراد الأسرى بشكل روتينى لأداء مهام تهدد الحياة، بما فى ذلك البحث عن المتفجرات فى أنفاق حماس. تم القبض على أحد هؤلاء المعتقلين، محمد شبير، فى غزة فى أوائل مارس ٢٠٢٤ وأُجبر على السير مكبل اليدين عبر أنقاض مسقط رأسه، خان يونس. وبحسب شبير، أرسله الجنود للبحث عن متفجرات، الأمر الذى عرض حياته للخطر الوشيك. ووصف التجربة المروعة قائلًا: "أرسلنى الجنود كالكلب إلى شقة مفخخة"، كما يتذكر شبير. "اعتقدت أن هذه ستكون اللحظات الأخيرة من حياتي".
ممارسة لم تكن معزولة
خلص تحقيق صحيفة التايمز إلى أن هذه الممارسة لم تكن معزولة بل كانت جزءًا من إجراء أوسع وأكثر تنظيمًا. وأكدت المقابلات التى أجريت مع ١٦ جنديًا إسرائيليًا وثلاثة فلسطينيين أن المعتقلين كانوا يُرسلون بانتظام إلى مناطق يُشتبه فى اختباء مسلحى حماس فيها، وغالبًا بمشاركة ضباط استخبارات إسرائيليين.
وشملت هذه المهام مهام خطيرة مثل استكشاف المبانى المفخخة، واستكشاف شبكات أنفاق حماس، وحتى تحريك أشياء خطيرة محتملة مثل المولدات أو خزانات المياه، والتى يمكن أن تخفى الأجهزة المتفجرة أو مداخل الأنفاق.
وأكد جندى سابق شارك فى مثل هذه العمليات على مدى التنسيق والروتينى الذى أصبحت عليه هذه الممارسة. ووصف كيف كانت وحدات الاستخبارات متورطة بشكل عميق فى نشر المعتقلين لهذه المهام الاستطلاعية. وقد تم إطلاع الجنود على هذه الممارسة، وتم التعامل مع المعتقلين ونقلهم بطريقة تشير إلى تورط كبار القادة. ووفقًا للجندي، أصبحت هذه الممارسة إجراءً شائعًا، حيث تستخدم الكتائب المختلفة المعتقلين بنفس الطريقة.
الانتهاكات القانونية والأخلاقية
استخدام الدروع البشرية محظور بشكل لا لبس فيه بموجب القانون الدولي، لأنه يعرض حياة المدنيين للخطر وينتهك حقوقهم. وأكد البروفيسور لورانس هيل كاوثورن، الخبير فى القوانين التى تحكم الصراع والاحتجاز، أنه بغض النظر عما إذا كان المعتقلون مدنيين أو أعضاء فى جماعات مسلحة، فإن استخدامهم فى مثل هذه العمليات أمر غير قانوني. وذكر هيل كاوثورن: "من غير القانونى إجبار المعتقلين الفلسطينيين على استكشاف أماكن خطيرة".
هذه الممارسة تذكرنا بـ "إجراء الجار" الذى استخدمته إسرائيل فى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين، والذى تضمن إجبار المدنيين الفلسطينيين على الاقتراب من مخابئ المسلحين المشتبه بهم. حظرت المحكمة العليا الإسرائيلية هذا التكتيك فى عام ٢٠٠٥، وأعلنت أنه غير قانونى بموجب القانون المحلى والدولي. ولكن على الرغم من الحظر، يبدو أن الصراع الأخير قد أعاد إشعال فتيل استخدام أساليب مماثلة تحت مبررات جديدة.
ردود الفعل الدولية
ردًا على تحقيق صحيفة التايمز، صرح الجيش الإسرائيلى بأن "توجيهاته وإرشاداته تحظر بشدة استخدام المدنيين المعتقلين فى غزة فى العمليات العسكرية".
وذكر الجيش أيضًا أنه سوف يفحص الادعاءات التى قدمها المعتقلون والجنود الفلسطينيون المتورطون فى هذه الممارسة. ومع ذلك، فإن شدة وحجم الإجراءات المبلغ عنها، وخاصة تلك التى تنطوى على ضباط الاستخبارات والتنسيق العسكري، تشير إلى قضية منهجية تثير تساؤلات خطيرة حول المساءلة داخل القوات المسلحة الإسرائيلية.
يصنف القانون الدولي، كما أبرز خبراء مثل البروفيسور مايكل. شميت من ويست بوينت، استخدام الدروع البشرية كجريمة حرب. وأكد شميت أن "هذا يشكل فى معظم الحالات جريمة حرب". إن الممارسة فى غزة، وخاصة إرسال المدنيين عمدًا إلى مواقف خطرة، مدانة باعتبارها انتهاكًا خطيرًا للمعايير الأخلاقية والقانونية فى الحرب.
معارضة الجنود والمعضلات الأخلاقية
أعرب بعض الجنود الإسرائيليين الذين شهدوا أو شاركوا فى هذه الممارسة عن مخاوف أخلاقية عميقة بشأن استخدام المعتقلين بهذه الطرق الخطيرة. ووفقًا للشهادات، كانت هناك معارضة داخلية داخل الرتب، حيث شكك الضباط من ذوى الرتب الدنيا فى أخلاقيات إجبار المدنيين الفلسطينيين على العمل كدروع بشرية. وذكر بعض الجنود أن قادتهم برروا هذه الممارسة بوصف المعتقلين بأنهم مسلحون محتملون، على الرغم من إطلاق سراح العديد منهم لاحقًا دون توجيه اتهامات إليهم.
يتذكر جهاد صيام، وهو مصمم جرافيكى فلسطينى يبلغ من العمر ٣١ عامًا، كيف أجبر الجنود الإسرائيليون مجموعة من المدنيين النازحين، بمن فيهم هو نفسه، على السير أمامهم أثناء تقدمهم نحو مخبأ للمسلحين فى مدينة غزة.
ويروى «صيام»: "طلب الجنود منا التقدم للأمام حتى لا يطلق الجانب الآخر النار". ورغم أن المدنيين لم يصابوا بأذى بعد العملية، فإن تجربة صيام تسلط الضوء على استخدام الدروع البشرية فى محاولة للحد من المخاطر العسكرية، وتجاهل أرواح المدنيين الأبرياء.
دعوة عالمية
التقارير التى تتحدث عن استخدام الفلسطينيين كدروع بشرية أثناء الصراع فى غزة تسلط الضوء على نمط مقلق من الاستخفاف بالحياة البشرية والقانون الدولي. وعلى الرغم من دفاع إسرائيل عن عملياتها العسكرية باعتبارها ضرورية لمحاربة حماس، فإن هذه الاكتشافات تثير تساؤلات خطيرة حول أخلاقيات وشرعية تكتيكاتها. ومع استمرار الصراع، تصبح الحاجة إلى إجراء تحقيقات مستقلة والمساءلة أكثر إلحاحًا لضمان حماية حقوق المدنيين وعدم تكرار مثل هذه الانتهاكات.