
من قلب زنازين باردة، وجدران صامتة تكتظ بالأسى، وخلف الأصفاد والقضبان، حيث تتقاطع الاعترافات مع الندم، بدأت تتكشف خيوط رواية أخرى لم تُروَ من قبل عن «اعتصام رابعة العدوية».. ليست رواية الهتافات ولا الدموع، بل رواية السلاح المُخبأ، والأوامر السرية، والوجوه التى اختفت لحظة المواجهة.
من داخل مجمع سجون طرة، وتحديدًا بين الزنازين القابعة فى عنبر «٢» بسجن «القاهرة تحقيق»، وعلى مدار أكثر من عام، فى الفترة بين يناير ٢٠١٨ حتى أبريل ٢٠١٩، جمعتنى حوارات طويلة امتدت ساعات مع عدد من عناصر جماعة «الإخوان» التى شاركت فى اعتصام «رابعة»، ثم انشقت عن الجماعة بعدما تكشفت لها الحقيقة، حقيقة استخدامها وقودًا لمعركة تنظيم لا يريد سوى الحكم، ولو على دماء الأبرياء.
بين مشاعر ندم ومراجعة فكرية، أو حتى تخلٍّ عقائدى كامل، اجتمع هؤلاء، الذين كانوا فى الصفوف الأولى للاعتصام، وآخرون تولوا مهام ميدانية وتنظيمية حساسة، على سرد وجه آخر من المشهد، الذى ظل سنوات مادة صراع بين روايات الإعلام ودوائر السياسة وغبار التاريخ.. فماذا قالوا؟
الشرطة لم تبدأ بإطلاق النار بل الشرارة بدأت من عمارة «المنايفة».. وبدأت الرد بعد قتلنا ضابطًا وعسكريًا
منذ اللحظة الأولى لعزل الرئيس محمد مرسى، فى ٣ يوليو ٢٠١٣، تحولت ساحة رابعة العدوية إلى «مزار سياسى مُقدس» لدى مؤيدى جماعة «الإخوان».
إعلام الجماعة صوّر الاعتصام باعتباره «رمزًا للسلمية» و«صمودًا حضاريًا»، بينما وصفت السلطات الاعتصام بـ«البؤرة المسلحة التى تمثل تهديدًا للأمن القومى».
لكن شهادات سجناء شاركوا فى الاعتصام، فككت تلك الصورة، وأعادت تركيبها من جديد، بما شاهدوه بأعينهم وعاصروه بأنفسهم، فحسب من التقيتهم داخل السجن، لم يكن الاعتصام فقط للتعبير عن موقف سياسى، بل شمل تخزينًا للسلاح، وتنظيمات جهادية، وخططًا ممنهجة للتصعيد ضد الدولة.
أولى الشهادات كانت لـ«م. ك»، أحد الشباب المحكوم عليهم فى القضية رقم «٣٤١٥٠ جنايات مدينة نصر أول لسنة ٢٠١٤»، وهو عضو ضمن ما يُعرف بـ«المجموعة ٩٥ قتال»، وجاء من إحدى مدن الشرقية، بتكليف من المكتب الإدارى هناك للانضمام إلى الاعتصام، والذى قال: «لم تبدأ الشرطة بإطلاق النار كما قيل. الشرارة جاءت من سطح عمارة المنايفة».
وأضاف الشاب الإخوانى: «ألقينا أنبوبة بوتاجاز على القوات الأمنية، حينما كانت هذه القوات تطالب المعتصمين بالخروج عبر ممرات آمنة، صباح يوم فض الاعتصام، ثم بدأ إطلاق الرصاص من أسلحة كانت مُخزنة فى الميدان. فى لحظات، سقط ضابط وعسكرى، وردت القوات بإطلاق النار».
«م. ك» لم يكن مجرد شاهد، بل مشاركًا فى الحدث، يروى من موقع فاعل بمرارة: «أقسم بالله، رأيت الخيانة بعينى. القيادات كانت تحرض وتختفى، خاصة أسامة ياسين الذى كان يشرف على مجموعتنا، والمكلف من خيرت الشاطر بإعداد المجموعات القتالية».
ويواصل: «صدقنا أننا على طريق الجهاد، لكننا كنا حطبًا لمعارك سياسية. وبعد السقوط، احتضننى فكر (داعش) داخل السجن، بعدما وجدت فيهم ثباتًا أكثر من جماعة الإخوان»، وفق قوله.
من أكثر الشهادات تكرارًا بين المنشقين عن جماعة «الإخوان»، تلك التى تدور حول «طيبة مول» المتاخم لميدان «رابعة العدوية». فى الظاهر، هو مركز تجارى مُزدحم بالباعة والأنشطة، لكن فى الباطن، وفقًا لما رواه أكثر من مسجون، كان أحد المخازن الرئيسية للأسلحة.
من بين هؤلاء «أ. م»، من أعضاء الفرقة الإعلامية التابعة لـ«الإخوان» أثناء الاعتصام، الذى حكم عليه بالمؤبد فى قصية فض رابعة، بعد أن جاء من إحدى مدن محافظة سوهاج بتكليف من المكتب الإدارى.
قال الشاهد: «كان كل شىء منظمًا. السلاح يُنقل ليلًا، بتكليف من عناصر مختارة»، مؤكدًا أن ٨٠٪ من «العتاد» كان فى «طيبة مول»، والباقى موزع على شقق سكنية قرب ميدان «رابعة».
وأضاف: «تم تدريبنا جيدًا خلال الاعتصام على خرائط القتال، وخُطط الهجوم والدفاع، التى كانت مرسومة بدقة. لم تكن الأسلحة مجرد خرطوش كما يظن البعض، بل شملت بنادق آلية وقنابل يدوية وقنابل مولوتوف وسكاكين ميدانية، مع تدريبات متقدمة أجريت فى مناطق مغلقة من الاعتصام».
وصلت رسائل للقيادات بميعاد الفض قبل ساعات من التنفيذ فتكتمت على الأمر
من قلب تلك البنية المعقدة، يبرز اسم خيرت الشاطر كالعقل المدبر. فحسب شهادة أحد المعتقلين المنشقين: «الشاطر كان يدير كل شىء من بعيد، ويستخدم أسامة ياسين وصفوت حجازى ومحمد البلتاجى كوسطاء. لم تكن هناك قرارات عفوية، كل كلمة، كل تحرك، كان بتخطيط».
الأكثر إثارة هو ما رُوى عن «معرفة سابقة بموعد الفض». فى ليلة ١٣ أغسطس، قبل ساعات من فض اعتصام «رابعة»، وصلت رسائل إلى قيادات الوسط تفيد بأن «الصبح سيكون الموعد». مع ذلك، لم يُبلغ المعتصمون العاديون، بل تُركوا فى الميدان دون استعدادات كافية، ما أدى إلى كارثة لم تكن مفاجئة لبعض القادة، بل متوقعة.
وفقًا لمنشق عن «الإخوان» متهم فى قضية فض «رابعة»: الاعتصام لم يكن «إخوانيًا خالصًا»، بل تحوّل إلى ساحة لتجمعات من طيف واسع من «التيارات الإسلامية المسلحة».
وقال المنشق فى شهادته عن هذه التيارات: «عاصم عبدالماجد وطارق الزمر من (الجماعة الإسلامية)، كانا حاضرين، إلى جانب عناصر من تنظيم القاعدة، منهم من جاء بتكليف من محمد الظواهرى. لم يكن الهدف فقط دعم مرسى وعودته مثل الشعارات المعلنة، بل توسيع الاشتباك مع الدولة».
ووفقًا لشهادة منشق خلف القضبان تتماهى مع شهادات سابقة، كان «عبدالماجد» يردد دومًا: «إذا تمسّك الشعب بمرسى، سينقسم الجيش»، وهى عبارة وصفها أحد المسجونين المتهمين على ذمة قضايا «رابعة» بأنها «وهم أُدخلنا فيه، حتى صدقناه وصرنا أدوات لتنفيذه».
من أكثر التشكيلات التى تكررت فى الشهادات كان «المجموعة ٩٥ قتال»، وحسب الشهود هى كيان شبابى شبه عسكرى داخل الاعتصام، تم تجهيزها وتدريبها على القتال والمناورة.
قال أحد المسجونين عن هذه المجموعة المسلحة: «كنا نملك السلاح والتدريب، ونُكلَّف بمهمات قتالية. فى بداية الفض نجحنا فى قتل ضباط وإصابة جنود، لكن الذخيرة نفدت بسرعة. فى تلك اللحظة، تخلّت عنا القيادات، وهرب جميعهم من الميدان، فانسحبت المجموعة، واختفى معظم أفرادها، بينما تُرك الآلاف فى الميدان دون غطاء حقيقى».
فى لحظات الاشتباك العنيفة، برزت بعض المواقف التى وصفها الشهود بـ«الخيانة العظمى». من أكثر الأسماء التى تكررت فى هذا السياق: صفوت حجازى وأحمد المغير، إلى جانب مرشد الجماعة محمد بديع.
عن صفوت حجازى، قال أحد المسجونين: «كان يحمل السلاح، ويصرخ: اللى هيرُش مرسى بالمَيه، هنرشه بالدم. لكنه أول من هرب، وتنكّر، وأُلقى القبض عليه لاحقًا فى ملابس نسائية».
أما أحمد المغير، الملقب بـ«رجل خيرت الشاطر»، فكان له دور محورى فى التصعيد حسب رواية أحد المتهمين المنشقين عن «الإخوان» خلف القضبان، والتى قال فيها: «المغير هو من حدد مواقع إطلاق النار، وكان يُشرف على توزيع السلاح. لكنه اختفى لحظة المواجهة. تركنا ونجا».
عضو بـ«الحرية والعدالة»: قالوا لنا «اصمدوا يوم كمان ومرسى هيرجع»
بينما كان المعتصمون يهتفون لعودة «مرسى»، كان القيادات- حسب الشهادات- يدركون أن عودته غير ممكنة، لكنهم قرروا استخدام الحشد كأداة ضغط أو كوقود سياسى.
قال أحد أعضاء حزب «الحرية والعدالة» المنحل، مسجون خلف القضبان: «قالوا لنا: اصمدوا يومًا آخر وسيعود مرسى. كانوا يكذبون، فالهدف كان الوصول لنقطة انهيار الدولة، أو جرجرتها للتفاوض». وأضاف أن بعض القيادات كان يتحدث عن أن «السفارة الأمريكية تدعمنا، وكاثرين آشتون معنا، وأمريكا توفر غطاءً دوليًا لحماية اعتصامنا وهى إشارات استُخدمت لتثبيت الأمل الزائف فى النفوس».
الأكثر مأساوية، حسبما أجمعت عليه الشهادات، أن غالبية المعتصمين لم يكونوا على علم بما يُخطط فى الخفاء. جاءوا بحسن نية، ظنًّا أن الاعتصام سلمى، وأن هناك خطة مُحكمة لاستعادة الشرعية.
لكن، كما قال أحد الشهود: «كنا مجرد أدوات. استخدمونا دروعًا بشرية، ولم يُخبرونا بالحقيقة. هذه ليست جماعة دعوية، بل هو تنظيم يُجيد التضحية بأفراده».
عادت الشهادات لتتحدث بعدها من جديد عن «طيبة مول»، لكن بما يفوق مجرد كونه مخزنًا للسلاح. فقد وُصف بأنه «غرفة عمليات»، و«مركز لإدارة المعركة»، بإشراف مباشر من قيادات الجماعة.
قال أحد المنشقين: «كان مركزًا للتسوق فى الظاهر، لكنه فى الباطن ثكنة عسكرية استخدمناه لتخزين السلاح، لاستخدامه يوم الفض».
مع غروب شمس ١٤ أغسطس ٢٠١٣، كان كل شىء قد انتهى عسكريًا. تحوّل الميدان إلى رماد، والقيادات إلى مطاردين.
لكن من وسط هذا الدمار، بدأ بعض المعتقلين فى مراجعة ما جرى. بعضهم تبنّى مراجعات فكرية كاملة، وانتقد جماعة «الإخوان» من منظور دينى. آخرون اختاروا طريق التطرف، كرد فعل على الخيانة التى أحسّوها. وبين هذا وذاك، يبقى الصوت الذى سُمع فى السجون، أقرب إلى الحقيقة من كثير مما رُوى خارجها.
الاعتصام الذى وُصف بأنه «سلمى»، فى ضوء هذه الشهادات، يتكشف باعتباره أحد أكثر المشاهد تعقيدًا فى التاريخ المصرى الحديث.
اعترف المنشقون بما لم يكن يُقال، واعترفوا أيضًا بأنهم كانوا جزءًا من آلة ضخمة، حرّكتهم بالشعارات، ثم تخلّت عنهم عند أول اختبار.
هذه الاعترافات، الصادرة عن خلف الأسوار، تُعيد تشكيل السردية. فى زمن التزييف، ربما تكون أصوات الندم، هى الأقرب إلى الحقيقة.