«فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر»، لم أجد غير هذه الجملة الشائعة وأنا أتأمل حال سوريا الحبيبة هذه الأيام، رغم كرهى الشديد لاستخدام الجمل الجاهزة، أحببت محمد الماغوط واعتبرته أحد أهم أساتذتى، وأحببت سعد الله ونوس «١٩٤١- ١٩٩٧» المسرحى الكبير الذى أسعدنى زمانى بصداقته، هذا بخلاف عشرات الأسماء التى ظللت سماء الثقافة العربية لأكثر من قرن من الزمان.
سألنى زميل صحفى، وهو صديق أيضًا: ماذا لو شهد سعد الله المشهد الذى شاهدناه فى الأسابيع الفائتة؟، سؤال صعب بالطبع، لأنك من الصعب أن تتحدث بلسان رجل هو الآن بجوار ربه، وفى الوقت نفسه لا يمكن تجاهل الفرح الذى شعر به كثيرون تضرروا من النظام السابق الذى يصعب الدفاع عنه، وبالطبع من المستحيل أن تتعاطف مع أشخاص ينتمون إلى أزمنة قديمة، دعمتهم دولة الخلافة الأردوغانية بمباركة غربية؛ الهدف منها فى النهاية حماية دولة الاحتلال، التى استغلت الأحداث وانتهكت السيادة ودمرت جيشًا عربيًا.
قلت لصديقى إن أهم صفات سعد الله ونوس أنه كان منحازًا للقيم الإنسانية العليا للبشرية كلها وليس لبلده فقط، هو كان نصيرًا للحق الفلسطينى بالطبع من موقف أخلاقى، وكان يرى أن ذوبان الكيان الصهيونى فى المنطقة من رابع المستحيلات، مهما زادت وحشية المحتل، ووضح هذا فى مسرحية «الاغتصاب» التى نشرها للمرة الأولى فى مجلة «أدب ونقد»، التى كنت أعمل فيها، والتى كانت تتناول علاقة طبيب نفسى إسرائيلى يعالج مريضًا فلسطينيًا، هو رأى أنه من الصعب أن يعالج الجانى ضحيته، ولكن حين أخرج النص المخرج العراقى الكبير والصديق جواد الأسدى، وأبدى تفاؤله بالعلاج غضب سعد جدًا.
سعد الله موهبته أكبر من الجغرافيا، لذلك تجد أن أعماله صالحة للعرض فى كل الأقطار، هو ضد الاستبداد وضد التطرف الدينى وضد العنصرية وضد التبعية للغرب، لم يكن بلاغيًا فى خطابه، ولكنه كان يحفر فى طبقات التاريخ العربى بحثًا عن أسباب خيباتنا، وكيف نجح العنصريون الأغراب فى احتلال أرضنا، كان مثقفًا كبيرًا، يفهم فى الشعر والموسيقى والتاريخ وعذابات البشرية، فى «ملحمة السراب» التى جاءت ضمن آخر أعماله توقع ما نحن فيه الآن، وكيف نجح الغرب فى تحويلنا من مواطنين إلى زبائن، وفى الوقت نفسه يساعد الكيان الإسرائيلى لكى يحول لقطاء العالم إلى مواطنين فى أرض لا يملكونها.
أما عما يحدث فى سوريا الآن، والتخلص من طاغية برك هو وأبوه على صدر شعبه كل هذه السنوات، قلت إننى أعتقد أنه لو كان حيًا، لانتظر قليلًا قبل أن يدلى بدلوه، لأنه هو القائل «أعتقد أننى أكتب لكى أمتحن الصواب وأفتش عنه، الكتابة ليست تلقين صواب جاهز ومعطى، بل هى محاولة للكشف عن آليات يمكن أن تهيئ الأذهان لاستكشاف الصواب». كان يرى أن «المدخل الأساسى والصحيح للحديث عن المسرح: تبلوره وحل إشكالاته هو الجمهور»، و«تحديد جمهورنا يتضمن بشكل أو بآخر موقفنا من هذا الجمهور، وما نريد أن نحمل له من خلال فهمنا لحاجاته، ووعينا بقدرات المسرح على التغيير والفعل. فنحن إذ نختار الجمهور، إنما نتخذ موقفًا فكريًا واجتماعيًا هو بالذات الذى سيُملى علينا مضمون أعمالنا، والأفكار التى نريد عرضها، وإبراز ديناميتها»، هل فى المرحلة الجولانية سيكون هناك مسرح؟، ولو وجد ماذا سيكون شكله وشكل جمهوره وشكل موضوعاته؟
حين دمرت قوات التحالف بغداد مطلع تسعينيات القرن الماضى، كتب سعد الله أنه وهو يتابع الأحداث شعر بأن النار تأكل حنجرته، بعدها بشهور تبين أنه مصاب بسرطان الحنجرة، وبين عامى ١٩٩٤ و١٩٩٧ كتب أجمل نصوصه، سبع مسرحيات بين المتوسطة والطويلة هى: «منمنمات تاريخية، ١٩٩٤»، «يوم من زماننا، ١٩٩٤»، «طقوس الإشارات والتحولات، ١٩٩٤»، «أحلام شقية، ١٩٩٥»، «ملحمة السراب، ١٩٩٥»، «بلاد أضيق من الحب، ١٩٩٦»، و«الأيام المخمورة، ١٩٩٧».
كان يتأمل مصائر البشر فى منطقة جغرافية قُدّر لها أن تحمل كل المتناقضات، كان يرى أننا نعيش زمن انكسار، وأن المدن العربية مستباحة، دمشق استسلمت لتيمور لنك فى «منمنمات تاريخية»، ولأن الظلم يستعمر الإنسان العربى يُفضِّل «فاروق» الانتحار فى «يوم من زماننا»، بعدما ضغطت عليه الظروف الاجتماعية وكسرت عينه، فيختار الموت عن الحياة الزائفة، ولكنه أيضًا كان يرى بارقة أمل، أمل ضعيف بالطبع ولكنه أمل، بالطبع تراث سعد الله السابق لمرضه هو الأشهر، مثل «الملك هو الملك»، و«مغامرة رأس المملوك جابر»، و«الفيل يا ملك الزمان»، والأخيرة تصلح أن تكون عنوانًا للمرحلة الجديدة، لأنها تحكى قصة ملك ظالم يملك فيلًا مزعجًا يرمز للبطش والجبروت، يخاف الناس منه، ولكن لا أحد يجرؤ على الشكوى. إلى أن يأتى شخص يدعى زكريا يحرّض الناس على الشكوى، ويدربهم عليها، ويذهبون بالفعل إلى الملك، ولكن هيبة المكان تغير من موقفهم ويخافون أكثر، وحين يسألهم عن سبب مجيئهم يقولون له إنهم جاءوا يقترحون عليه تزويج الفيل، فتعجب الفكرة الملك، ويعيّن زكريا مرافقًا دائمًا للفيل، ويأمر بإقامة فرح للعروسين.