شارك الشاعر مختار عيسى، نائب رئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر الأسبق، بكلمة في الأمسية الأدبية الخاصة بالشاعر الكبير محمد فريد أبو سعدة، والتي عُقدت مساء اليوم الأحد تحت عنوان "ليلة محمد فريد أبو سعدة"، وذلك في رحاب بيت الشعر العربي بمركز إبداع الست وسيلة، خلف الجامع الأزهر. وإليكم نص الكلمة:
مختار عيسى عن "أبو سعدة": الفريد والسير على الجمر الأليف قال مختار عيسى: "من الصعب - قطعًا - الحديث، عابرًا، عن شعر محمد فريد أبو سعدة؛ فمثله، بتجربته الثرية، الحادة اللينة، الحارقة الباردة، المترحلة الساكنة، البارقة المعتمة، لا تختزله عبارة، ولا تختصره إشارة، ولا تستجيب له الآلة النقدية العامة بتجهيزاتها المعتادة، وتعاليبها وقوالبها المستعارة من خارج الموقف الشعري العربي، أو حتى تلك المستمدة من محاولات الآباء لصناعة ذائقة نقدية عربية خالصة من شوائب التغريب.
هذه الاتكاءات أو التمثلات أو المستويات التحليلية للقاع الشعري أو التلقوية العابرة لا تستجيب لتمرير نصوصه من بين تروسها دون كثير من النزيف للحال التي استبدت بالشاعر الكبير أبو سعدة في إصداراته المتعددة، والتي تكاد - للتوهل الأول - تلمس تشابكاتها وتشابهاتها رغم تباينات ظاهرية أو اختلافات في تجنيسها كنصوص شعرية، سواء تلك التي اعتمدت الذائقة التفعيلية بتجلياتها الممسكة بأهداب الصورة ذات الحضور الباذخ في المشهد الشعري السبعيني ودوران الشاعر حول الذات بتشظياتها، أو تلك التي جنحت باتجاه بوصلتها الخاصة في جغرافية النص النثري الجامح والجامع بين مرتكز حداثوي متغربن نوعًا ما، أو حتى ما بعده، وبين إشراقات مستمدة من إرث عربي صوفي محض، أكثر جلاء لدى الحلاج أو ابن الفارض أو السهروردي.
في شعر "أبو سعدة"، لا يهرب موضوع إلا ليحضر، ولا تتوارى ذائقة إلا لتتجلى، ولا يغيب تراث إلا ليشخص ثانية وثالثة ورابعة في وجهك، فيما أنت ميمم شطر حداثة نوعية ذات وهج فريد.
الوقت والزمن والمرأة والنهر والخيول وتفاصيل الجسد الأنثوي بشبقيات شعرية وتأويلات نفسية تستجلب التفسير الفرويدي، واستغوارات الروح المنهكة بفعل عوامل الضغط المجتمعي في حركاته المتشابكة والحادة، وهطول فلسفي باستطعامات صوفية جانحة، وتشظٍّ حاد للذاتين الفردية والجمعية، وتهاويم الفن الشعري الذي دائمًا يتأبى على التأطير؛ فرارًا من أسر التمنهج، وعبورًا لقيود التعاريف والوصوف، كل هذه صوالح لأن تصبح مفاتيح خاصة للوصول إلى قلب النص الشعري لدى "فريد أبو سعدة" من أقرب الطرق وبأقل التكاليف، فهو شاعر لا يسعى - كما يفعل مجايلوه - للاستعلاء على قارئه. ففي حين يتوجب عليك، وأنت على أعتاب نصه، أن تلقي بوجودك خارجه، فإنك ستصبح - إن ولجت النص - متحررًا من كل سابق، رغم ما يشوب التجربة من تماسات موضوعية أو بنيوية مع نصوص لآخرين. فـ"أبو سعدة"، رغم أنه صانع ماهر، لا يسمح لك بالاغتراب داخل نصوصه، وسوف تجد أنك صرت جزءًا منها.
ستجده تلقائيًا وعفويًا مسترسلًا أحيانًا، وقاضبًا مختزلًا في أحيان أخرى، ومزاوجًا بين الإسهاب والتكثيف في أحيان ثالثة. هو المتأرجح كثيرًا بين رؤية رومانتيكية للعالم تتجلى في احتفائه بالنهر والسماء والغزلان والوعول، وغير ذلك، وبين اندياح صوفي متمثل لتجارب أئمة العشق الإلهي.
وإن كانت الإيروتيكية تكاد تغلف كثيرًا من نصوصه في هذا الإطار، فهو يتنقل بين واقعية محضة، بالحديث عن اليومي والهامشي والعادي. المهم أنك ستجد نفسك مرتبكًا، مفككًا، وأحيانًا منسجمًا مسلوكًا في خيط واحد مع الشاعر؛ لأنه لا يحفل إلا بكل ما هو إنساني، سائرًا بك إلى حقل الشوك أو جسر الألغام، رغم الوضوح الفاضح، والسير راقصًا على الجمر الأليف".