على صوت قعقعة مفاصله يستيقظ محمد مريض “الهيموفيليا” كل يوم من مضجعه بقريته الصغيرة في محافظة أسيوط، غير هانئًا بساعات متواصلة قليلة من النوم حق أي كائن حي، وقد سلبه المرض ذلك الحق، بعد أن تسبب في تآكل جميع مفاصله خاصة مفاصل ركبتيه.
النزيف الذي يتعرض له محمد باستمرار بسبب مرض “الهيموفيليا” جعله كذلك بالكاد يستطيع رفع ملعقة الطعام إلى فمه، وارتداء ملابسه، بالكاد يصبح غير عاجزًا بشكل كامل عن الحركة، ولكن أقل احتكاكًا بعظام جسده يتسبب له في خروج أمواج من الدماء من جسده لاتجد لها صدًا.
محمد الشاب صاحب السبع وعشرون عامًا هو مريض “هيموفيليا” من آلاف مرضى الهيموفيليا في مصر الذين يشملهم العلاج على نفقة الدولة، ولكنهم في الوقت نفسه محرومين من تلقي العلاج الوقائي المخصص للتقليل من حدة هذا المرض، وذلك على عكس نظرائهم مرضى الهيموفيليا الذين تشملهم مظلة التأمين الصحي، وهو الأمر الذي يهددهم بالإصابة بإعاقات مزمنة نتيجة ذلك الحرمان.
لم يصدر لمحمد صاحب كارنيه الخدمات ذو اللون الأحمر والذي يعني أنه مريض هيموفيليا من الدرجة الأشد خطورة، سوى قرارًا طبيًا بصرف حقنتين فقط كل 6 أشهر من علاج فاكتور 500، على الرغم من أن تقرير الطبيب المعالج له يقر بضرورة تناوله 3 حقن أسبوعيًا نظرًا لحالته الصحية الحرجة، والنتيجة أن آلام محمد تزداد سوءًا يومًا بعد يوم ولا يستطيع النوم من تورم مفاصله وآلامها.
يوجد أنواع من كروت علاج مرضى الهيموفيليا تشير ألونها على شدة النزف الذي يتعرض له هذا المريض ونقص عامل التجلط لديه اللون البنفسجي يشير إلى إعاقة بسيطة بينما الكارت ذو اللون الأخضر يشير إلى إعاقة متوسطة أما الكارت ذو اللون الأحمر أن المرض شديد الخطورة
والهيموفيليا مرض وراثي نادر يصيب جهاز تجلط الدم إذ يعاني الأشخاص المصابون به من نقص في أحد عوامل التجلط (بروتينات الدم التي تساعد في تكوين الجلطات لوقف النزيف)، وبسبب هذا النقص، أن لا يتخثر الدم بشكل طبيعي، مما يؤدي إلى استمرار النزيف لفترة أطول من المعتاد في حالة الإصابة بأي جرح أو حتى نزيف داخلي في المفاصل والأعضاء الداخلية.
و العلاج الوقائى “للهيموفيليا” عبارة عن استخدام عوامل التخثر بصفة منتظمة، أو العلاج البديل الأحدث (إميسيزوماب) المرضى الهيموفيليا وخاصة من النوع الشديد لمنع النزيف المتكرر للمفاصل، وفوائده تتمثل في تحسين جودة الحياة، وتقليل نزف العضلات، وتقليل فرص النزف بالمخ وكذا نزف المفاصل، وأيضًا تقليل أمراض المفاصل وجراحتها، وتقليل الحجز في المستشفى.
مآساة مزودجة تعيشها أم اثنين من مرضى الهيموفيليا
مأساة مزدوجة تعيشها السيدة م. هـ مع أبنائها الاثنين المصابين بمرض الهيموفيليا، والذين يؤثر على أجسادهما أي ارتطام حتى ولو كان بسيطًا، وكذا أي قفزة لعب ولو كانت هينة يقفزونها، وهم يمارسون لهو طفولتهم الطبيعي، لتجعلهم ينزفون دماءًا لاتتوقف، وقد ينزفون داخليًا دون أن يشعرون، إلا عندما ينتابهم شعورًا بأن “روحهم تنسحب” على حد تعبير الشقيقين.
التخرج من التعليم ذنب يدفع ثمنه المريض حرمانًا من العلاج
مازال أحد هؤلاء الأبناء في المرحلة الدراسية بالصف الثاني الثانوي، أي يشمله العلاج الوقائي الذي من شأنه التقليل من حالات النزف وشدّتها، وهو ما جعل حالته أفضل من شقيقه الذي أنهى تعليمه، فأصبح بلا تأمينًا طبيًا أي لايمكنه صرف العلاج الوقائي، وعلى الرغم أن حالة الأخير لم تختلف عن حالة شقيقه الذي تشمله الرعاية الطبية الكافية، بل لاتختلف عن حالته هو نفسه قبل أن ينهي تعليمه وتنتهي التغطية التأمينية، ما تسبب في أن الأمر ازداد سوءًا مع كثرة النزف وقلة العلاج.
يبدأ الابن الذي أنهى رحلته التعليمية في رحلة أخرى من المعاناة المرضية، ربما شعر أن ذنبه فيها فقط هو تخرجه، فأصبح بلا تغطية تأمينية لمرضه مثلما كان يحظى بها أثناء دراسته فلا يُصرف له إلا كميات محدودة من للغاية من الدواء لاتكفي وقف أنهار النزيف من جسده الذي يشهدها على الأقل مرتين في الأسبوع.
الطالب يتعمد الرسوب ليشمله العلاج التأميني
وعلى عكس ما يسعى إليه أي طالب أن يتخرج سريعًا من كليته، ويتوج مشوار تعليمه بشهادة تخرجه، ومن ثم الانخراط في سوق العمل، سبق للابن التفكير في الرسوب في سنوات دراسته الأخيرة عمدًا متخليًا عن حلمه، آملًا ألا يحرم من العلاج الذي يكفيه، لكي يضمن فقط قدرة الوقوف على قدميه.
إلا أن الأم وقفت أمام تخلي ابنها عن حلمه في سبيل العلاج، وارتضت أن يكمل مشواره التعليمي، وهي تحاول معالجته من مساعدات المحيطين إلا أن محاولاتها باءت بالفشل بعد مرات قليلة فالدواء يحتاج إلى الاستمرار "لم أرض أن يضحي ابني بشهادته لكي يحصل على العلاج، وفضّلت أن أقوم أنا بالإنفاق على علاجه، ولكنني لم استطع" – تقولها الأم.
يحتاج في مرة النزف الواحدة 3 أمبولات ويصرف له 4 كل 6 أشهر
تابعت السيدة بقولها أن سعر الأمبولة الواحدة من دواء فاكتور 8 الذي يحتاجه الابن 3500 جنيه، وهو يلزمه في المرة الواحدة بين 4 إلى 5 أمبولات حسب الوزن وشدة النزيف، ولا يصرف له على نفقة الدولة إلا بين ثلاث أو أربع فقط أمبولات كل 6 أشهر، وهي كمية لاتكفيه على الإطلاق، إذ أنه لايمر أسبوعين إلا ويتعرض إلى النزف الشديد.
في ظل عدم قدرتها المادية لم يسع الأم إلا أن تلجأ إلى الجمعيات الخيرية التي تحاول جاهدة مساعدتها، ولكن في مرات كثيرة تعجز، والنتيجة أن يظل النزيف ينهش في جسد الابن، ويطرحه أرضًا، نفسيًا وبدنيًا.
سؤال تطرحه أم أبناء “الهيموفيليا” التي تنتظر مصير ابنها الثان هو الأخر بالحرمان من العلاج الوقائي الذي يتمتع به حاليًا عقب تخرجه ليصبح حاله حال شقيقه: "فيما يقل مريض الهيموفيليا الذي يعالج على نفقة الدولة عن المريض الذي يشمله التأمين الطبي لكي لايشمله العلاج الوقائي؟"، وتضيف: "لماذا يُقدّر على مرضى الهيموفيليا على نفقة الدولة أن يظلوا مُهددين بالإعاقة الدائمة في المفاصل، أو أن يصل النزيف إلى المخ، فينهي حياتهم بينما يعالج نظرائهم ممن يشملهم التأمين الصحي؟".
رعاية نفسية وليست صحية فقط
لايحتاج مرضى الهيموفيليا فقط إلى رعاية صحية بل يحتاج إلى رعاية أخرى نفسية تؤكد الأم في حديثها “للدستور” مُرجعة ذلك إلى ما يعانيه مريض “الهيموفيليا”، وخاصة المريض الذي يعالج على نفقة الدولة من آلام نفسية ناتجة عن التهميش والتميز بينه وبين المريض الذي يعالج في منظومة التأمين الصحي، مستكملة أن الأخير لايمكنه الالتحاق بأي عمل والاستفادة بشهادته التي ضحى بفرصة علاجه من أجلها، ولا أن يمارس حياته بشكل طبيعي على الرغم أن هناك فرص لعلاجه وجعل حياته أقرب إلى أن تكون طبيعية.
معاملة على أنهم أصحاء وهم ليسوا كذلك
تضيف أن مايزيد الأمر سوءًا أن الدولة تعامل مرضى الهيموفيليا على أنهم أصحاء، أو يعانون إعاقات بسيطة على أكثر تقدير لمجرد هيئتهم التي تبدو كذلك، لافتة إلى أن هذا أمر غير منطقيًا، إذ أن مريض الهيموفيليا مُعرض في كل لحظة للنزف، وحين يصاب بنوبة النزيف يصبح عاجزًا بنسبة 100 بالمئة عن الحركة، ولاتقل إعاقته عن ذوي الهمم، كما أكدت أن أغلب المستشفيات ليس لديها ثقافة التعامل مع مريض الهيموفيليا بضرورة نقل الدم إليه في حال أصابته النوبة، وهو ما يعرضه إلى تهديدات خطيرة تصل إلى تهديد حياته.
مريض: ندرة التحاليل التي تكشف عن حالتنا تزيد المعاناة
وفي هذا يقول محمد أبو حجر مريض هيموفيليا أن بعض الأدوية التي يتناولها مرضى الهيموفيليا تتسبب في التشويش على نتائج التحاليل التي تكشف إصابتهم بالمرض، مما قد يتسبب في أن يظن بعض الأطباء أنهم ليسوا مرضى بهذا المرض، وبالتالي لايتمكن المرضى من الحصول على بطاقات الخدمات المتكاملة، بينما التحاليل التي تكشف الإصابة بمرض الهيموفيليا لاتوجد إلا في أماكن نادرة كما أنها باهظة الثمن.
يرى أبو حجر أن التفرقة بين مرضى الهيموفيليا الذين يشملهم التأمين الصحي، والذين يعالجون على نفقة الدولة يتسبب في إهدار كبير للمال العام.
مفسرًا بقوله: "تظل الدولة تنفق ملايين الجنيهات على مريض الهيموفيليا، وهو في المراحل التعليمية المختلفة بإعطاؤه العلاج الوقائي باهظ التكلفة لكي لايتعرض إلى إعاقة مزمنة، وفور أن يتخرج توقف عنه هذا العلاج، وبالتالي تعرضه بيديها إلى تلك الإعاقة، وتذهب وقايتها له طوال تلك السنوات سدى" – يقول أبو حجر.
بلغت التكلفة المقدرة للخطة الوقائية لتقديم العلاج لمرضى الهيموفيليا المنتسبين لهيئة التأمين الصحي من 700 مليون إلى مليار جنيه سنويًا.
وصلت نسبة تغطية الخدمات الطبية لمرضى الهيموفيليا في مصر إلى 75%.
نتج عن تلقي مرضى الهيموفيليا المشمولين برعاية التامين الصحي العلاج الوقائي انخفاض معدل تردد المرضى على المستشفيات من 60% إلى 5%.
كما بلغت نسبة المرضى الذين استغنوا عن وسائل المساعدة للحركة نتيجة العلاج الوقائي 60%.
ووصلت نسبة الحضور بالمدارس المتلقين هذا العلاج 90%.، كما انخفض عدد مرات النزف من 6 مرات إلى 2.4 مرة.
المصدر: وزارة الصحة
إسلام أصيب بفيروس B بسبب العلاج بالبلازما
الدواء المقرر لإسلام خالد مريض الهيموفيليا الذي يعالج على نفقة الدولة ولاتشمله رعاية التأمين الصحي هو "فاكتور9" إلا أن المجالس الطبية ترفض إعطاء إسلام الجرعات المطلوبة منه، وتكتفى بإعطاؤه جرعات وصفها بـ "نقطة في بحر" مما يحتاجه إن وجدت، بل تصف تلك المجالس العلاج بنقل البلازما باعتباره البديل الوحيد المناسب أمامه.
"البلازما تسببت لي في أن أصبح مريض التهاب كبد فيروس بي، وأتعالج منه منذ سنوات وإلى الأن"، يقولها إسلام " "ملحق بالتحقيق صورة التقرير الطبي الذي يفيد بذلك".
علاج الهيموفيليا بالبلازما حسب إسلام يواجه العديد من المشكلات أولها عدم إقبال الكثير من المواطنين على التبرع بها، مما يعني نقص تواجدها، بالإضافة إلى أنه وعلى الرغم العناية الطبية الكبيرة في الكثير من المستشفيات الحكومية إلا أنه في بعض المناطق التي تعاني الإهمال يتسبب العلاج بنقل البلازما في العدوى بالعديد من الأمراض منها فيروس الكبدي الوبائي مثلما حدث معه.
يتابع أنه لم يقرر علاجًا لمرضى الهيموفليا على نفقة الدولة إلا بما قيمته 9194 جنيهًا فقط طوال العام، وهو ما وصفه بأنه لايعني قيمة تذكر من قيمة علاج مريض الهيموفيليا باهظ الثمن الذي يصل إلى 25 ألف جنيه في المرة الواحدة، مؤكدًا أن العلاج الوقائي يجب أن يكون متاحًا بمعدل ثلاث مرات أسبوعيًا أو مرة واحدة في الأسبوع، وهو ما لايحدث مطلقًا للمريض الذي يعالج على نفقة الدولة.
يوجد في مصر حوالي 10،000 مريض بالهيموفيليا، منهم 6،000 مريض مسجلين لدى جمعية أصدقاء مرضى النزف
المصدر: جمعية أصدقاء مرضى النزف
من جهتها تتبنى جمعية أصدقاء مرضى النزف مقترح إنشاء صندوق لدعم مرضى الهيموفيليا للتوسع فى تقديم العلاج الوقائى للمرضى غير المنتسبين لهيئة التأمين الصحى أو الذين لا يشملهم قرارات نفقة الدولة، خاصة بعد النجاح وفرص تحسين جودة الحياة التى طرأت على المرضى الذين تلقوا العلاج الوقائى بالفعل، وفقًا للقرار الصادر خلال احتفالية العام الماضي.
ماجدة رخا: علاج المصابين بالإعاقة مكلف أكثر من العلاج الوقائي
صرحت الدكتورة ماجدة رخا، رئيسة جمعية أصدقاء مرضى النزف في حديثه "للدستور" أن هناك خللًا كبيرًا في القوانين والأنظمة الصحية التي تتعلق بمعاملة مرضى الهيموفيليا في مصر، حيث يتعرض هؤلاء المرضى لعدم المساواة بين المؤمَّن عليهم، على الرغم من أنهم يعانون من أمراض مزمنة تتطلب علاجًا مستمرًا.
وأكدت رخا على أن العديد من هؤلاء المرضى يحصلون على تأمين صحي فقط حتى سن 18 عامًا، ليُحرموا بعد ذلك من الاستفادة من أي تغطية صحية، مما يعرضهم لمخاطر صحية كبيرة.
وأوضحت أن مرضى الهيموفيليا، وهم المصابون بنقص في أحد عوامل التجلط (عوامل 8 أو 9)، يتعرضون للنزف بسهولة، وهو نزيف قد يكون حادًا أو متوسطًا أو بسيطًا.
وأضافت أنه في حالة عدم تلقيهم العلاج الوقائي المنتظم، قد يؤدي النزيف المتكرر إلى تشوهات في المفاصل مثل الركبة والكاحل والمرفق، مما يعرضهم للإعاقة الدائمة، وأشارت إلى أن العلاج الوقائي المنتظم، الذي يتضمن حقنًا أسبوعية أو مرتين في الأسبوع، يساعد المرضى على العيش حياة طبيعية خالية من المضاعفات.
كما تابعت أن تكلفة علاج هؤلاء المرضى أقل بكثير من تكلفة معالجة الإعاقات الناتجة عن النزف المستمر، مؤكدة ضرورة أن يتبنى النظام الصحي في مصر علاجًا وقائيًا مستمرًا للمرضى بعد بلوغهم سن 18 عامًا، خاصة وأن الجمعية تضم أكثر من 6000 مريض بالهيموفيليا، بينما يتجاوز العدد الإجمالي للمرضى المصابين بأمراض النزف الأخرى مثل "فون ويلبراند" 10،000 مريض.
وأشارت إلى أن العديد من المرضى لا يحصلون على العلاج الوقائي المنتظم، بينما يحتاج المرضى إلى العناية الصحية المستمرة التي يمكن أن تُجنبهم الإعاقات المتعددة.
ولفتت رخا إلى أنه على الرغم من وجود توصيات عدة من قبل الجمعية لتمويل العلاج الوقائي لهؤلاء المرضى على نفقة الدولة أو ضمن التأمين الصحي، إلا أن القوانين الحالية لا توفر تغطية صحية لهم بعد بلوغهم سن 18 عامًا، وهو ما يعد انتهاكًا لحقوقهم في المساواة والرعاية الصحية كما ورد في الدستور المصري وقانون 10 لسنة 2018.
وأكدت أن الجمعية تعمل على تقديم الدعم الطبي والتثقيفي للأطباء، مشيرة إلى أن هناك تعاونًا مع الاتحاد العالمي لمرضى النزف ومع مراكز العلاج المختلفة لتحسين جودة العلاج والتشخيص، كما أشارت إلى أهمية إدخال العلاج الوقائي المنتظم في السياسات الصحية الوطنية، موضحة أن هذا النوع من العلاج يُطبق عالميًا ويؤدي إلى تقليل فرص النزف وتحسين حياة المرضى بشكل ملحوظ.
كذلك طالبت رئيسة جمعية أصدقاء مرضى النزف بضرورة إعادة النظر في السياسات الصحية الخاصة بالهيموفيليا في مصر، وتوفير العلاج الوقائي المستمر لجميع المرضى، بما يعزز فرصهم في العيش حياة صحية ومنتجة دون التعرض للإعاقة، ويُخفف الأعباء المالية على الدولة في المستقبل.