«لحن الوالى»

«لحن الوالى»
«لحن
      الوالى»

 

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار. 

وهو صاحب اللحن الأشهر فى عصره، وقد وهبه الوالى قصرًا، يكاد يضاهى قصره، فى مساحته وخيراته، ما أدهش الحرس والعبيد، تساءلوا: «من الساكن الجديد، الذى أخرج الوزير من قصره؟» وزَّع قائد الحرس الأفراد ليترك انطباع الكفاءة عند السيد الجديد، أرشق البوابة الرئيسية بالجنود الأشداء، ليكونوا خير واجهة. كان جعفر بن العدوى أحد هؤلاء، وأول من رأى صعلوكًا يشبك ذراعيه خلف ظهره مقتربًا من البوابة، زعق فيه يصرفه، بيد أن الآخر أهمله، وتابع السير حتى توقف أمامه. دفعه جعفر فى كتفه: «ارحل عن هنا، قبل أن يأتيك سيد القصر». رد الصعلوك: «أنا سيد القصر». تفحصه الحرس بنظرات استنكارية، شاب هزيل حاف، يرتدى جلبابًا من الخيش. ابتسم وأظهر يمينه، الماسكة بآلة عود مؤكدًا: «أنا الملحن». تابع وهو يشير أمامه: «السيد الجديد لهذا القصر». هرول جعفر إلى قائده، الذى أتى مُرحبًا والابتسامة تصغر فى وجهه، كلما كبر الصعلوك فى عينيه، قال راميًا بذراعه: «تفضل يا سيدى». خرجت كلمته الأخيرة بنبرة تهكمية، كتم الحرس ضحكاتهم وفتحوا البوابة. وطأ الملحن العشب فشعر بالرطوبة تمتص شقاء قدميه، تعلقت عيناه بالأرض الجديدة، ثم شبَّت على زقزقة عصافير، ركَّز بصره على عصفور زيبرا حتى اختفى بين الأغصان، هنا، فقط نظر حوله، فشهق من رحابة المكان ورفاهته، انكمش هيكله من كثرة الحرس والعبيد، ابتلع ريقه من رؤية الجاريات الجميلات، أما العيون المحيطة فقد تبادلت اللمز. تلفتت جارية صهباء بحثًا عن الأقل مرتبة، تمتمت بعدما رمت عمَّال الحمامات بنظرة ساخرة: «أبينكم من يعرف السيد الجديد؟».

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار، وفقيرٌ، بل ومشرد، يبيت فى التكايا، يعمل فى دكانة لتصنيع آلات العود مقابل لقمته، فهو خائب، شارد، لا تبلغ أجرته مرتبة النقود، يخطئ مقاسات العود، يخلط بين منطقتى «القرار» و«الجواب» فى وجه الآلة، يتلقى طلبًا بصنع عود للحفلات، فيصنع له ثلاث فتحات بدلًا من واحدة، ولكن، كانت لموهبتيه فى التلحين والعزف، السبب وراء تمسُّك رب العمل به، فذات يوم كان يمر فى سوق الآلات الموسيقية، يطلب الصدقة، وأحيانًا العمل، ولمَّا انتهى به سؤال الناس عبثًا، جرَّب المشاكسة. اختار دكانًا يفرش آلاته على الطريق، التقط عودًا وأخذ يمسحه بطرف جلبابه، وللحظة استهوته رنَّة الأوتار، سرقته رغبة طفولية للهو، تربَّع وراح يضرب، ميَّزت أذناه المرهفتان الأصوات المختلفة، جرت الأوتار بين أنامله المتسخة كأنها الماء، تطهرت روحه، اكتشف فى نفسه شخصًا جديدًا، رآه فى اقتراب فتاة تصغى إليه. فجأة، سمع لحنًا يدور فى وجدانه، وكانت لسلاسة الأوتار بين أصابعه القدرة على ترجمته، أما صاحب الدكان فكان يتناول فطوره بالداخل، عندما رفع عينيه على جمهور أمام عتبته، أدرك أن ناصيته هى مصدر الموسيقى المترامية منذ وقت، نفَّض يديه فى جلبابه، هرول خارجًا ليتوقف أمام الملحن، يسأله باستنكار: «من أنت؟».

إنه ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

وكان له الفضل فى تهافت الزبائن على الدكان، وإذا لم يعزف فى تجربته الأولى لدرجة التفوق، فقد شهدت موهبته فى التلحين قمتها منذ انفجارها، ما جمَّل الآلات فى عيون الناس، وأقدموا على شرائها، وخلال شهر لحقها ببراعة العزف، بعدما أتقنه بالممارسة. انتهز صاحب الدكان فرصته الذهبية، عرض عليه تجربة الآلات الأخرى، ولكنه عجز عن العزف عليها، حتى الوترية منها، فرأى الرجل أن يخصص دكانه فى العود، وشار عليه ملاكه أن يفيض على الملحن بالخير، ولكنه اتبع شيطانه، الذى أوصى بأجرة الطعام، فلا يمتلئ فيغتر، ولا يجوع فيهجر، أما الملحن فقد رضى باللقم وتاق إلى الجمهور، ينتظره مع فتح الدكان ويطارده مع غلقه، يتنقل بين المقاهى والمراكب النيلية، حتى نصحه الناس بقصد دور المناسبات، فيزيد الجمهور ويملك النقود، غمرته الحماسة بعدما تخيَّل عيشة الشبع والمزاجية. ومن الخيال تعثر فى الواقع، الذى رماه بعقبة، جاءت فى عدم كفاية اللحن لصنع أغنية، ما يعوق من إحياء المناسبات، فما هو إلا..

ملحن، وسوف يعزف على عود بلا أوتار.

ولكن، كان هذا كافيًا لنيل رضاء الوالى، والانضمام لسهرات الحاشية، التى حسبها ضربًا من ضروب الخيال، فلطالما استمد إلهامه من حكايات رواد المقاهى عن تلك السهرات، التى ظن زيفها، مع ذلك كان ينصت ابتغاء إلهامها، سمع عن جوارٍ لم يُرَ فى سحرهن، فتصاعدت نغمة فى رأسه اهتزت لها أصابعه على الأوتار، وعن شراب ولحوم وفاكهة رمت بألحان حسبها المستمعون من صنع الجن، غير الألحان المصنوعة من وصف الجنائن والمسابح ومفروشات ريش النعام والإوز، فمتى تضيق نفسه من حياة العدم يستدع جنته الموسيقية، ومثلما ترجمت الألحان حاجته وحرمانه نقلت أيضًا غضبه واحتجاجه، بعدما منعه صاحب الدكان من استعارة العود، بسبب سهراته التى تأخره عن ميعاد الفتح، وعوضًا عن أحلام اليقظة بات يقضى لياليه شاردًا باستجلاب الذكريات، عائلته، بيته، دكانه، ثيابه النظيفة، وأخيرًا الجيش المعتدى الذى هاجم مدينته من جهة البحر، وأطاح بها، ولم يرسل الوالى جنديًا واحدًا للدفاع عنها. فجأة، نشبت فى نفسه نغمة بصوت العصيان، اعتدل وتنحنح، فحزر الحضور خروجه بموهبة جديدة، ولتكن الغناء، ولكنه اكتفى بدندنة لحن ينبض بروح التمرد. ولتعويض إفلاس الكلمات راح يكرر اسم «الوالى»، ويقطِّعه حسب احتياج اللحن: «يا والى والى والى يا.. يا لا لى لا لى لا لى يا.. والى والى يا.. لا لى لا لى يا». مضت الليلة طربًا بحلاوة اللحن، صحا الملحن مرتاح الصدر، صحت صحبته بألسن تدندن لحن «الوالى»، بعدما استقر بأذنهم، راح يتنقل كالوباء بين الناس، حتى بلغ أمر الوالى، ابتهج الرجل على عرشه، فقد استعاد محبة ودعم الرعية، بعدما فقدها بضعف جيشه أمام الغزاة، نهض سائلًا: «من ذا الذى صنع لحن الوالى؟».

من المتتالية القصصية «أغنية الوالى »

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق البورصة: البنوك تقتنص نصيب الأسد من تعاملات 2024 وتستحوذ على 16 % من تعاملات السوق
التالى أسعار الذهب لحظة بلحظة.. سعر الذهب اليوم 11 يناير 2025 في الصاغة