الخميس 09/يناير/2025 - 11:31 ص 1/9/2025 11:31:48 AM
سقط بشار الأسد، الرئيس الذي حكم سوريا لأربعة وعشرين عامًا، حكمًا قمعيًا.. وشاهد العالم، كيف اسقطته قوات المتمردين، بسرعة ملحوظة.. وفي الشوارع، احتفل الشعب السوري، الذي صمد خلال حرب أهلية، استمرت لأكثر من عقد من الزمان، فيما اعتبره البعض، أنه تطور إيجابي للشعب الذي يناضل من أجل حكومة أكثر ديمقراطية منذ عقود، بعد أن أدار بشار الأسد نظامًا قمعيًا، قام باعتقال شعبه وتعذيبه وقتلهم بشكل تعسفي.. وقد ظهرت وحشيته بالكامل خلال العقد الماضي، من خلال الأساليب التي استخدمها لسحق قوى المعارضة عسكريًا.. وهنا، فلن يفتقد أحد بشار الأسد، كما أن رؤية السوريين وهم يحتفلون بسقوطه، تبدو وكأنها طال انتظارها.. ومع ذلك، من المهم أن نخفف من توقعاتنا، مع حقيقة، (أن دول ما بعد الصراع، تواجه تحديات ومخاطر جسيمة)، وأن سقوط الأسد يترك فراغًا، من المرجح أن يقابله مصالح مُتضاربة، تهدد آفاق إقامة نظام مستقر وديمقراطي في سوريا أحمد الشرع وهيئة تحرير الشام.
اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، خلال ما أسمته الولايات المتحدة والغرب، وبعض المنتفعين بما يُسمى (الربيع العربي)، وهي لحظة في التاريخ سادتها سلسلة من المظاهرات الشعبية في معظم أنحاء الشرق الأوسط.. شهدت عدة دول، مثل تونس ومصر واليمن وليبيا، احتجاجات قوية مناهضة للحكومة، أدت في كثير من الأحيان إلى صراعات أو سقوط الحكومات.. وخلافًا للحكومات الأخرى التي رضخت تحت ضغط الاحتجاجات، ظل نظام الأسد متمسكًا بالسلطة.. تدخلت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى لدعم الجماعات المتمردة، مثل الجيش السوري الحر لتغيير ميزان القوى.. ومع ذلك، حافظ الأسد على قبضته على السلطة، من خلال تحالفه مع روسيا وإيران.. بالإضافة إلى ذلك، بدأ الدعم الغربي للمتمردين يتلاشى مع ظهور تنظيم داعش، الذي حوَّل تركيز أمريكا أكثر نحو منع تهديد الإرهاب في المنطقة، وضرورة حفاظها على ما تحت إيديها من النفط السوري في الشمال الشرقي من البلاد.. ومع تشبث الأسد بالسلطة طوال الحرب، بدا أن الأسد هو الذي انتصر.. كما يرى بن لونجو في IEMed.
لكن سُرعان ما تغير ميزان القوى، حيث وجد حلفاء سوريا أنفسهم متورطين في صراعات أخرى.. بدأت الموارد والدعم من روسيا تجف، مع انشغالها بتوغلها في أوكرانيا.. وإدراكًا لمدى اعتماد الأسد على روسيا، طلب الروس من الأسد مغادرة البلاد، وعرضوا عليه اللجوء. في الوقت نفسه.. وبدأ اعتماد الأسد على مقاتلي إيران وحزب الله في لبنان يتضاءل، مع تكثيف إسرائيل حملتها العسكرية بعد السابع من أكتوبر 2023، في قطاع غزة وجنوب لبنان، بعد أن كانت إيران وإسرائيل تخوضان حرب ظل لأكثر من عقد من الزمن، إلا أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة لقيادات حزب الله وحماس، أضعفت الجنرالات الإيرانيين، ودخلت الجهتان في حرب مباشرة.. ومما زاد الوضع تعقيدًا، انخفاض معنويات الجيش السوري، بسبب التدهور الاقتصادي وانعدام الثقة في المؤسسات.. فبدأت قطاعات كبيرة من الجيش في الانشقاق إلى العراق، عندما بدأ القتال مرة أخرى في الداخل السوري.. هذه الظروف، غيرت ميزان القوى، وهيأت الظروف لجماعات المتمردين، لطرد الأسد من منصبه، في الثامن من ديسمبر الفائت.. ليبقى السؤال حول ما سيحدث في سوريا ما بعد الأسد، دون إجابات واضحة.
ومع ذلك، من المهم التعامل مع مثل هذه الأسئلة، مع إدراك أن سقوط زعيم قوي في المنطقة، نادرًا ما يؤدي إلى الاستقرار الديمقراطي.. ولا يملك المرء إلا أن يتذكر كيف فشل (الربيع العربي)، المدفوع بالتطلعات الديمقراطية عمومًا، في إنتاج ديمقراطيات مستقرة جديدة، حتى الطبيعة الديمقراطية لتونس تثير التساؤلات.. على سبيل المثال، لنتأمل الفوضى المصرية ضد الرئيس الراحل حسني مبارك، التي بدأت في يناير 2011.. فقد اتسم حكم مبارك لمصر، الذي دام ثلاثين عامًا، بالعديد من مظاهر الفساد والدولة البوليسية.. وتمكنت الاحتجاجات الحاشدة، من الإطاحة بمبارك في فبراير من العام نفسه.. ومع ذلك، وقعت البلاد في المحظور، واختطفتها جماعة الإخوان لمدة عام، قبل أن ينتفض الشعب المصري ضدها، وتعود سيرتها الأولى.. وتلك واحدة من نوادر التاريخ، أن تنجو دولة من سقطة، كتلك التي حدثت بعد أحداث يناير 2011 في مصر.
وتعتبر الاحتجاجات اليمنية (المؤيدة للديمقراطية) عام 2011 مثالًا آخر.. تلقى المتظاهرون دعمًا من الجيش، بعد وقت قصير من بدايتهم.. واندلعت أعمال العنف خلال الصراع، وأصابت الرئيس علي عبد الله صالح، حتى غادر البلاد.. لكنه عاد بعد أربعة أشهر فقط.. ولدى عودته، وقَّع اتفاقًا لنقل السلطة إلى نائب الرئيس، عبد ربه منصور هادي.. وباعتباره المرشح الوحيد خلال الانتخابات الرئاسية عام 2012، لم يتمكن هادي من اكتساب الشعبية اللازمة للحكم، وواجه حربًا أهلية عام 2014.. ومنذ ذلك الحين، انخرطت البلاد في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
●●●
قد يرى البعض، أن الدعم الأمريكي يوفر المساعدة اللازمة لضمان الاستقرار.. ومع ذلك، تميل التدخلات الغربية إلى مفاقمة المشكلة التي تهدف إلى معالجتها.. ولنتأمل هنا الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية، التي اندلعت في ليبيا ضد معمر القذافي عام 2011.. فمثلها كمثل بلدان أخرى خلال (الربيع العربي)، تصاعدت هذه الاحتجاجات بسرعة إلى صراع مُسلح.. أدى تدخل حلف شمال الأطلسي، بقيادة فرنسا والولايات المتحدة، إلى تحويل ميزان القوى لصالح المتمردين، الذين أسروا القذافي وقتلوه في نهاية المطاف.. لكن إزاحته من السلطة لم تُنه الصراع.. بل تطورت إلى ساحة معركة خارج الحدود الإقليمية، حيث تتنافس القوى الأجنبية من أجل السيطرة على بلد يسبح فوق بحر من النفط والغاز.. ومما زاد الطين بلة، أنه وسط ضجيج القتال، كان هناك انفجار للجماعات الأصولية، التي تسعى كل منها إلى تحقيق أجندتها السياسية الخاصة.
أحد العوامل التي تجعل المسالة السورية معقدة للغاية، هو تنوع سكانها الذي أصبح، بسبب الحرب الأهلية، أكثر انقسامًا على طول خطوط الولاءات المختلفة للجماعات المتنافسة.. وقد تؤدي التغيرات في ديناميكيات السلطة، إلى تفاقم الأعمال العدائية وتهديد آفاق الاستقرار.. على سبيل المثال، يُشكل العلويون أقلية في سوريا، لكنهم كانوا يتمتعون بسلطة أكبر في جيش من الأغلبية السُنية.. وقد تتزايد التوترات تجاههم، مع اكتساب الجماعات العسكرية الإسلاموية المزيد من السيطرة.. ومما يجعل الأمور أكثر تعقيدًا، هو كيف استغلت القوى الأجنبية، في كثير من الأحيان، الانقسامات الطائفية لأغراضها السياسية الخاصة.. وتشمل الجماعات التي تقاتل من أجل السلطة في سوريا الآن، المسلحين الشيعة الذين كانت تدعمهم إيران، والقوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والمسلحين السُنة المدربين في تركيا، والدروز وما إلى ذلك.. وتوفر هذه الانقسامات الطائفية القائمة، نفس الظروف التي تستغلها الجماعات المتطرفة، وقد تفعل ذلك للاستفادة من قاعدة سقوط الأسد. وهذا ما حدث أساسًا عام 2014، عندما سيطر تنظيم (داعش) على مساحات واسعة من سوريا والعراق، بسبب الاختلافات السياسية والعرقية في هذين البلدين.
ومما يزيد من حالة عدم اليقين في مستقبل سوريا، النوايا غير المعروفة للجماعات المُتصاعدة.. العديد من الجماعات التي طردت الأسد ليست هي نفس الجماعات التي دعمتها الولايات المتحدة، مثل الجيش السوري الحر.. في الواقع، لم يكن الجيش السوري الحر مُتحدًا سياسيًا أبدًا كما افترضنا.. الشيء الوحيد الذي كان يوحدهم هو معارضتهم للأسد، لكننا على الأقل عرفنا، أنه ليس لديهم مهمة دينية موحدة.. ومع ذلك، فإن الطبيعة الدائمة لهذا الصراع الذي طال أمده، قد أدت إلى ظهور قوى أكثر تطرفًا، مثل هيئة تحرير الشام، وهي تحالف أكثر من عشرين من الجماعات الإسلاموية المسلحة التي نشأت من جبهة النصرة، وهي فرع من المسلحين المنتسبين لتنظيم القاعدة.. وفي الواقع، أرسل زعيم داعش، أبو بكر البغدادي مقاتلين إلى سوريا عام 2014 ـ بما في ذلك أبو محمد الجولاني، الزعيم الحالي لهيئة تحرير الشام، وقائد الإدارة الجديدة في سوريا ـ في ذلك الوقت.. قام الجولاني بتشكيل جبهة النصرة، التي كانت تُعرف في الأصل بأنها جبهة داعش في سوريا، والتي شكَّل داعش من خلالها (الخلافة) الممتدة عبر العراق وسوريا.. ومع أن الجولاني، أو أحمد الشرع حاليًا، يتعهد بأن يكون معتدلًا، إلا أن التاريخ يحكي قصة أخرى.
ويزيد الأمور تعقيدًا في سوريا الآن، حقيقة أن دمشق لعبت دائمًا موقعًا استراتيجيًا في الشئون الدولية، وسيحاول اللاعبون الأجانب استغلال الوضع في سوريا لتحقيق مكاسبهم الخاصة، فطالما كانت سوريا (ملعبًا) وليس (لاعبًا).. وأوضح مثال على ذلك، هو إسرائيل التي نفذت بالفعل مئات الضربات في أراضيها، واستولت على أجزاء كبيرة من مرتفعات الجولان وجبل الشيخ واحتلت محافظة القنيطرة، وتوغلت نحو العاصمة، إلى مسافة خمسة عشر كيلو مترًا بعيدًا عنها فقط.. وعلى جبهة أخرى، من المرجح أن تصبح تركيا أكثر انخراطًا في سوريا، خصوصًا إذا أصبحت هيئة تحرير الشام أكثر قوة من الناحية السياسية.. فمن المرجح أن يحولوا تركيزهم على المقاتلين الأكراد في الشمال، والذين من المحتمل أن تستهدفهم هيئة تحرير الشام أيضًا.. وبطبيعة الحال، فإن الصورة الأكبر، تضع تاريخ سوريا في استراتيجية أكبر لمرحلة ما بعد الحرب الباردة.. فقد لعبت سوريا دورًا حاسمًا في الأنظمة المدعومة من روسيا في الشرق الأوسط.. ومن المرجح أن تنخرط الولايات المتحدة بشكل أكبر في سياسات إعادة بناء سوريا، الأمر الذي من المرجح أن يؤدي إلى تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا.. وقد حولت هذه التوترات سوريا إلى حرب بالوكالة، بين القوتين العالميتين في الماضي.. ودعونا نأمل أن لا يحدث ذلك مرة أخرى.. وتعالوا ننظر إلى الأمام!!.. ماذا نرى؟.
هناك الكثير من الأمور التي قد تسوء، ولكن هذا لا يعني أن مستقبل سوريا الغامض سوف يؤدي إلى الفشل.. ما نعرفه هو أن قدرة دول ما بعد الصراع على التحول إلى الديمقراطية، تعتمد على اللاعبين المحليين والأجانب.. فمن ناحية، سوف تحتاج سوريا إلى استعادة سلامة أراضيها، وهذا يتطلب من القوى الإقليمية، التضحية بأهدافها القومية والتعاون من أجل تأسيس الحكم الذاتي السوري.. بالإضافة إلى ذلك، ستحتاج الجماعات المتنافسة في سوريا، إلى وضع أجندتها الخاصة جانبًا والعمل معًا، وإشراك الشعب السوري في صياغة عقد اجتماعي جديد، يوفر الأمن والديمقراطية والفرص الاقتصادية.
والأهم من ذلك كله، أن نتذكر أن معظم العمل الشاق يجب أن يقوم به السوريون أنفسهم.. وهذه نقطة مهمة بشكل خاص، يجب على القوى الغربية أن تتذكرها.. هناك بالفعل دعوات للولايات المتحدة للعب دور رئيسي في إعادة بناء سوريا.. بل إن البعض يضع إطارًا لضرورة التدخل الأمريكي، من حيث الكيفية التي سيخدم بها المصالح الأمريكية، وهذه وصفة لكارثة.. ويتعين على الدول الغربية أن تتذكر إخفاقاتها في بناء الدولة في العراق وأفغانستان على مدى العقد الماضي.. ونظرًا لشبكة المصالح الدقيقة في المنطقة، فيتعين على الدول الغربية أن تُقصِر دورها على لعب دور داعم بشكل صارم.. السوريون الشرفاء وحدهم يعرفون سياساتهم جيدًا بما يكفي لإعادة بناء بلدهم.. وستُنبئنا الأيام بما كان خافيًا.. وإن كنا نراه مظلمًا.. ولذلك حديث آخر.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.