يشهد السودان أزمة إنسانية غير مسبوقة تفاقمت بشكل كبير؛ بسبب الحرب الأهلية المشتعلة منذ قرابة العامين بين الجيش السودانى وميليشيا الدعم السريع، وفى خضم هذا النزاع برزت اتهامات موثقة تشير إلى مخطط ممنهج من قبل الميليشيات لتغيير الهوية السكانية للسودان، عبر تهجير قسرى للسكان الأصليين واستبدالهم بجماعات موالية لها، أغلبها من المرتزقة والأجانب.
ويسعى هذا المخطط إلى إعادة تشكيل التركيبة الديموغرافية لبعض الولايات، خاصة فى مناطق استراتيجية مثل الجزيرة ودارفور، حيث أشارت تقارير سودانية إلى أن ميليشيا الدعم السريع تجرى عملية تهجير لسكان «دو راوة» فى ولاية الجزيرة وتوطين المرتزقة والأجانب محل المواطنين فى محاولة لمحو الهوية السودانية.
ويؤدى هذا التهجير القسرى إلى تداعيات إنسانية كارثية، حيث يواجه ملايين السودانيين فقدان منازلهم وممتلكاتهم، إضافة إلى الانهيار الكامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
وأثرت هذه الوقائع والجرائم بشكل عميق على الأطفال، الذين حُرموا من التعليم الأساسى واضطروا إلى العمل فى ظروف قاسية لدعم أسرهم، بالإضافة إلى النساء التى دفعت ثمن ويلات الحرب، ومع تصاعد العنف والانتهاكات يتعرض المدنيون لأشكال مختلفة من الجرائم، بما فى ذلك المجازر والنهب والاعتداءات على المنشآت الصحية والإمدادات الغذائية.
وفى ظل استمرار النزاع دون أفق واضح للحل، يزداد الوضع الإنسانى سوءًا، مع نزوح أكثر من ١٤ مليون شخص داخل وخارج البلاد، وانهيار الأنظمة الخدمية والوضع الاقتصادى بشكل عام، وغير ذلك من التداعيات التى يكشفها عدد من الخبراء السودانيين، لـ«الدستور»، خلال السطور التالية.
عماد السنوسى: تفكيك المجتمعات المحلية بخدف إضعاف قدراتهم المقاومة
أكد الكاتب الصحفى عماد السنوسى، رئيس تحرير صحيفة «نبض السودان»، أن ميليشيات الدعم السريع تواصل هجماتها على المناطق السكنية فى ولاية الجزيرة، حيث استهدفت سكان منطقة «ود راوة» بالتهجير القسرى، ما يعكس استمرار سياسة الترويع والتفريق القسرى التى تبنتها الميليشيات منذ بداية الأزمة، وطالت هذه العمليات العديد من القرى والأرياف فى ولاية الجزيرة، ما يعكس محاولات الميليشيا المستمرة لتفكيك المجتمعات المحلية، والسيطرة على المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية.
وأضاف «السنوسى» أن هذا التهجير لا يعد مجرد جزء من سياسة تدمير البنية الاجتماعية للمنطقة، بل هو امتداد للانتهاكات التى استهدفت مواطنى المنطقة، فى محاولة لإضعاف قدرتهم على مقاومة الميليشيات.
وعلى المستوى الاستراتيجى، أشار إلى أن استمرار هذه العمليات لا يعزز فقط من تفاقم الأزمة الإنسانية فى السودان، بل يمتد ليطال استقرار ولاية الجزيرة بشكل خاص، والأمن الداخلى فى البلاد بشكل عام، فمع كل عملية تهجير تزداد الضغوط على المناطق المستقبلة للنازحين، ما يفاقم من مشاكل النزوح الداخلى فى العديد من الولايات السودانية.
من جهة أخرى، أشار «السنوسى» إلى أن هناك استراتيجية مدروسة وراء هذه العمليات، التى لا تقتصر على تهجير المواطنين فحسب، بل تهدف أيضًا إلى تغيير التركيبة السكانية فى بعض المناطق عبر توطين قبائل غير سودانية فى مناطق تحت سيطرة الدعم السريع، وهذه السياسة تتضمن استبدال السكان الأصليين بقبائل وافدة لا تربطها أى صلات تاريخية أو ثقافية بالسودان، ما قد يؤدى إلى تغيير جذرى فى هوية البلاد.
وأوضح أن الخطوات التى تتبعها ميليشيات الدعم السريع لا تقتصر على تدمير الممتلكات والمرافق العامة، بل تشمل أيضًا محو تاريخ السودان من خلال استهداف مؤسسات الدولة، بما فى ذلك الإعلام والتعليم، وهذه الحملة الشاملة تهدف إلى تفكيك أسس الدولة السودانية، وإعادة تشكيل هويتها بما يتماشى مع المصالح الضيقة للميليشيا.
مجدى عبدالعزيز: المتمردون يحصلون على دعم خارجى يشمل «أسلحة ومرتزقة»
أوضح الكاتب والباحث السياسى السودانى مجدى عبدالعزيز أن خطة استهداف الدولة السودانية التى قادتها الميليشيات بدعم خارجى فى ١٥ أبريل ٢٠٢٣ لم تكن فقط تهدف إلى اختطاف السلطة السودانية، بل كانت تهدف بشكل أساسى إلى إحداث انقلاب سياسى وعسكرى داخل الدولة.
وأضاف «عبدالعزيز» أن هذه الخطة تتضمن فروعًا متعددة، من بينها ما يعرف بـ«التغيير الديموغرافى»، وهو ما يتضح جليًا من خلال ما يحدث فى ولاية الجزيرة من تهجير للسكان وإفراغ المدن من أهلها الأصليين، مع محاولة إدخال عناصر غريبة عن المنطقة.
وأشار إلى أن ولاية الجزيرة التى تعد أكبر مشروع زراعى فى العالم هى أحد الأهداف الرئيسية لهذه الخطة، مضيفًا أن الجزيرة تمثل مصدر الغذاء الرئيسى للسودان والدول المجاورة بفضل الأراضى الزراعية الشاسعة والمسطحة والمصادر المائية الوفيرة، ما يجعلها نقطة استراتيجية مهمة، خاصة فى حال حدوث أزمة غذاء عالمى.
واعتبر أن النزوح الجماعى الذى يشهده المواطنون السودانيون؛ هو نتيجة معاناة إنسانية ضخمة بسبب الحرب الحالية، حيث يواجه هؤلاء النازحون نقصًا حادًا فى الغذاء والدواء.
وأضاف أن ما يحدث ليس مجرد صراع سياسى أو عسكرى بين طرفين، بل هو محاولة لإحداث تغيير جذرى فى الدولة السودانية ضمن إطار الصراع الجيوستراتيجى فى المنطقة، مشددًا على الدعم الكبير الذى تتلقاه الميليشيا المتمردة من الخارج، بما فى ذلك الأسلحة والعتاد، بالإضافة إلى استجلاب المرتزقة من دول غرب إفريقيا.
خالد يوسف: ترسيخ تعدد الجيوش بتوسيع الميليشيات الحزبية
أكد خالد عمر يوسف، وزير شئون مجلس الوزراء، ونائب رئيس حزب المؤتمر السودانى، أن الحرب التى يشهدها السودان اليوم ليست سوى امتداد لحرب سلطوية إجرامية، وأن ميليشيات الدعم السريع تمارس أبشع الانتهاكات بحق المدنيين، ويجب على المجتمع الدولى التنديد بهذه الجرائم.
وأشار إلى أن الحرب التى زعم الداعمون لها أنها تهدف لحماية السيادة الوطنية قد تكشفت حقيقتها، حيث تم استقبال قوات الأمين داود، التى اعترفت بأنها تم تدريبها وتسليحها من قبل دولة أجنبية، مضيفًا أن هذا التناقض يفضح أهداف الحرب الحقيقية التى لا تتعلق بالسيادة، بل بالهيمنة على السلطة.
وتابع: «ما كنا نتوقعه هو القضاء على ظاهرة تعدد الجيوش، لكن ما نشهده الآن هو تزايد الميليشيات الحزبية والقبلية وانتشار السلاح بين المواطنين، والحرب التى كانت تستهدف ظاهرة تعدد الجيوش زادت من تعقيد الوضع وزادت من انتشار الفوضى».
نجلاء مرعى:القصف العشوائى فى المناطق المكتظة بالسكان
وصفت الباحثة، نجلاء مرعى، الوضع الإنسانى فى السودان بأنه «حرج للغاية»، مؤكدة أن الحرب المستمرة استنزفت موارد البلاد بشكل كبير، بعد أن تسببت، وفقًا لإحصاءات المنظمة الدولية للهجرة فى أكتوبر ٢٠٢٤، فى نزوح أكثر من ١٤ مليون شخص، ما يعد أسوأ أزمة نزوح عالمية فى العام الماضى.
وقالت: «التقديرات تشير إلى أن ١١ مليون شخص نزحوا داخل السودان، بينما لجأ ٣ ملايين إلى الدول المجاورة، على رأسها مصر، وجهود الإغاثة تواجه تحديات هائلة، خاصة فى المناطق التى تسيطر عليها قوات (الدعم السريع)، حيث يشكل الوضع الأمنى عائقًا أمام وصول المساعدات الإنسانية».
وأضافت: «رغم جهود الدعم من دول مثل مصر، وعدد من المنظمات الدولية، فإن الوضع الإنسانى فى السودان يتدهور باستمرار، والمدنيون يتحملون العبء الأكبر من العنف المستمر بين الأطراف المتنازعة، خاصة مع استخدام الأسلحة الثقيلة والضرب العشوائى فى المناطق المكتظة بالسكان».
وأشارت إلى أن الهجمات على المنشآت الصحية والخدمية، تعد جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى التهجير القسرى للسكان الأصليين، لافتة إلى أن التقارير الأخيرة تؤكد استهداف قوات «الدعم السريع» المستشفيات والصيدليات والمرافق الحيوية، ما أدى إلى انهيار الخدمات الأساسية فى عدد من المناطق.
وتابعت: «تلك الممارسات تأتى فى إطار مساع لتغيير التركيبة السكانية فى عدة مناطق، حيث تسعى الميليشيات إلى استبدال السكان الأصليين بعناصر موالية لها من المرتزقة والأجانب، بهدف إعادة تشكيل الهوية السكانية للسودان، كما تستمر الميليشيات فى تنفيذ عمليات انتقامية ضد المدنيين عقب كل هزيمة عسكرية، والتقارير تؤكد ارتكاب مجازر وجرائم حرب شملت القتل والنهب، وإجبار الأهالى على الفرار من مناطقهم». وأوضحت أن نحو ٧٠٪ من سكان بعض المناطق، مثل «ود راوة» بولاية الجزيرة، اضطروا إلى النزوح، خاصة نحو الولايات الشمالية والشرقية من البلاد، التى لا تشهد مثل تلك الانتهاكات، داعية المجتمع الدولى إلى تكثيف الجهود الإنسانية، والعمل على إنهاء الصراع الذى يهدد مستقبل السودان بأكمله.
عثمان ميرغنى: منطقة «ود راوة» تعرضت لموجة تدمير
عبّر رئيس تحرير جريدة «التيار» السودانية، عثمان ميرغنى، عن قلقه العميق من المخطط الذى تقوده ميليشيا الدعم السريع لتغيير هوية السودان، من خلال عمليات تهجير واسعة للمواطنين وتغيير التركيبة السكانية فى المناطق التى تسيطر عليها.
وأوضح «ميرغنى» أن منطقة «ود راوة» فى الجزء الشمالى من ولاية الجزيرة قد خضعت لسيطرة الدعم السريع منذ أكثر من عام، وهو ما أسهم فى تغييرات سلبية وتدميرية فى المنطقة.
وأشار إلى أنه قبل أيام، حققت قوات درع السودان بقيادة اللواء كيكل انتصارًا مهمًا ضد الدعم السريع، حيث تم تنفيذ هجوم مباغت أسفر عن مقتل عدد كبير من عناصر الميليشيا، واستعادة العديد من المعدات العسكرية والأسلحة، بالإضافة إلى سيارات الدفع الرباعى.
وأضاف أن هذا الهجوم قوبل بهجوم انتقامى من قبل قوات الدعم السريع على المواطنين فى المنطقة، حيث تم قتل العديد منهم، واستولت الميليشيا على الممتلكات، وطردت من تبقى من أهل «ود راوة».
وأدان هذه الجرائم الوحشية، موضحًا أنها تضاف إلى سجل طويل من الانتهاكات التى ارتكبتها الميليشيا فى جميع المناطق التى دخلتها، خاصة فى ولاية الجزيرة.
وأكد أن هذه الانتهاكات تمثل جزءًا من مخطط أكبر يهدف إلى تهجير السكان الأصليين وتغيير هوية المناطق التى تسيطر عليها هذه الميليشيا، فى محاولة لإعادة تشكيل السودان على أسس جديدة لا تمت بصلة إلى تاريخ البلاد وثقافتها.
وليد النور: استهداف البنى التحتية الأساسية خاصة محطات المياه والكهرباء
قال وليد النور، سكرتير نقابة الصحفيين السودانيين، إن ما يجرى فى السودان، لا سيما فى ولاية الجزيرة، هو مأساة إنسانية وتهديد خطير لاستقرار البلاد وهويتها.
وأوضح «النور»، لـ«الدستور»، أن ولاية الجزيرة تعتبر من أهم الولايات الزراعية التى يعتمد عليها السودان فى إنتاج الغذاء، إذ تضم مشروع الجزيرة الضخم ومشاريع السكر، إلى جانب إنتاج الخضروات والحبوب الاستراتيجية مثل الذرة.
وأشار إلى أن عمليات التهجير القسرى التى تنفذها ميليشيا الدعم السريع فى المنطقة لها تداعيات مباشرة على الأمن الغذائى للسودان بأكمله، إذ أدى تهجير السكان إلى تراجع الإنتاج الزراعى، وفقدت الأسر منازلها وممتلكاتها، ما اضطرها للنزوح إلى ولايات أخرى مثل نهر النيل والقضارف.
وحذر من التأثيرات طويلة الأمد لهذه الأوضاع، بما فى ذلك الضغط على المساحات السكنية والزراعية، وتأثيرها السلبى على البيئة، فالنازحون الجدد يحتاجون إلى خدمات أساسية مثل المياه والرعاية الصحية، فى وقت تعانى فيه هذه المناطق أصلًا من نقص شديد فى هذه الخدمات، ما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية.
وفيما يتعلق بالتغيير الديموغرافى، أكد أن ميليشيا الدعم السريع تتبع خطة ممنهجة تهدف إلى تغيير تركيبة السكان فى المناطق التى تسيطر عليها، ويتمثل ذلك فى تهجير المواطنين الأصليين وجلب المقاتلين للاستقرار محلهم.
طاهر المعتصم: المخططات هدفها تغيير التركيبة السكانية لصالح أطراف خارجية
شدد الكاتب الصحفى السودانى، طاهر المعتصم، على أن الهجوم الذى شنته ميليشيا «الدعم السريع» على مدينة «ود راوة» بولاية الجزيرة، مؤخرًا، يعد جزءًا من مخطط أوسع لتغيير التركيبة السكانية والهوية فى بعض المناطق السودانية.
وأوضح أن تلك العملية الانتقامية جاءت بعد أن قرر أحد القادة السابقين فى «الدعم السريع» التحول إلى صفوف القوات المسلحة السودانية، ما جعل الميليشيا تطلق الهجمات ضد المدنيين فى المدينة، ما أسفر عن نزوح أعداد كبيرة من السكان.
وأشار إلى أن ما يحدث فى ولاية الجزيرة ليس مجرد نزاع عسكرى، بل عملية تهجير قسرى تستهدف السكان الأصليين، الذين طالما ارتبطت حياتهم بالأنشطة الزراعية والتجارية فى المنطقة، ضمن مشروع الجزيرة، أكبر المشاريع الزراعية فى السودان.
ولفت إلى أن تهجير هؤلاء المواطنين من أراضيهم ستكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة على المدى البعيد، حيث سيجد السكان أنفسهم مجبرين على التكيف مع ظروف حياة جديدة قد تكون أكثر صعوبة، دون أى ضمانات لحياة مستقرة.
وأشار إلى أن بداية الحرب فى السودان، فى أبريل ٢٠٢٣، شهدت استهدافًا للبنى التحتية الأساسية، مثل محطات المياه والكهرباء، ما أجبر السكان على مغادرة مناطقهم، خصوصًا فى العاصمة الخرطوم وضواحيها.
الهندى عزالدين: ضرب الأمن الغذائى للبلاد من أجل تجويع المواطنين
أشار الباحث والمحلل السياسى، الهندى عزالدين، إلى أن ميليشيات الدعم السريع المتمردة تمضى قُدمًا فى تنفيذ مخطط استيطانى واسع النطاق يهدف إلى تغيير التركيبة السكانية فى السودان، من خلال استقدام آلاف المقاتلين من عربان دول الساحل الإفريقى.
وأضاف «عزالدين»، لـ«الدستور»، أن هذه الميليشيات تسعى إلى الاستيلاء على الأراضى فى سياق مشروع طويل المدى؛ يهدف إلى تهجير المواطنين السودانيين واستبدالهم بمجموعات غير سودانية، ما يعد تهديدًا حقيقيًا لهوية السودان.
وأشار إلى أن هذه العمليات الاستيطانية بدأت فى مناطق غرب دارفور، حيث تعد مدينة الجنينة مركزًا رئيسيًا للميليشيات، ووصلت إلى ولايتى الخرطوم والجزيرة، وقال إن ميليشيات الدعم السريع تعمل على تنفيذ مخطط تدريجى يتمثل فى تهجير السكان المحليين من خلال الهجمات القمعية والترويع المستمر، ما يضطرهم إلى مغادرة مناطقهم الأصلية واللجوء إلى مناطق أخرى بحثًا عن الأمان.
وأوضح: «الدعم السريع لا يتوقف عند محاولات تغيير الهوية الاجتماعية والثقافية للسودان فحسب، بل يسعى أيضًا إلى توجيه ضربة كبيرة للاستقرار السياسى والاقتصادى فى البلاد، خاصة فى المناطق الاستراتيجية مثل ولاية الجزيرة، فالهدف من هذا المخطط ليس فقط السيطرة على الأراضى والمشاريع الزراعية، بل أيضًا تغيير التركيبة السكانية لصالح أطراف خارجية لا تمت بصلة للتاريخ أو الجغرافيا السودانية».