فى مقاله المهم الذى نشره فى جريدة «حرف» الإلكترونية، شدد أخى وصديقى العزيز الدكتور محمد الباز على قضية معاصرة بالغة الأهمية، وهى تسطيح الوعى. وتلك القضية لها أبعاد كثيرة، سواء كان هذا التسطيح سياسيًا أو اقتصاديًا أو فكريًا أو ثقافيًا أو مجتمعيًا. وتلك كارثة تواجهها كل المجتمعات المعاصرة خاصة العربية.
إن الدكتور الباز فى حديثه عن هذه القضية ضرب أمثلة تحليلية أكثر من رائعة عندما تحدث عن فوضى الفتاوى الكثيرة التى تصدر عن دار الإفتاء أو مشيخة الأزهر. وفى الحقيقة إن هناك علاقة غير طبيعية بين من يريد السؤال عن الفتوى ومن يجيب عنها، ما ساعد على عملية تسطيح الوعى. وأعتقد أن هذه المسألة قضية خطيرة تحتاج إلى التوقف أمامها مليًا برؤية نقدية لوقف عمليات التسطيح التى تحدث داخل المجتمع. وبسببها ساد التطرف لفترة طويلة.
تسطيح الوعى، تلك الظاهرة المتفشية فى عالمنا المعاصر، تشكل تهديدًا خطيرًا على الفكر النقدى والإبداع الإنسانى. ففى زمن العولمة وتسارع وتيرة التكنولوجيا أصبحنا نغرق فى بحر من المعلومات المتضاربة والمتسارعة، ما يجعل من الصعب على الفرد فرز الحقيقة من الزيف والتمييز بين الرأى والرأى الآخر.
وتتعدد أسباب هذا التسطيح، فمنها انتشار ثقافة الاستهلاك السريع والتركيز على المظاهر بدلًا من المضمون، وتراجع دور التعليم التقليدى والتربية الصحيحة، وتفشى التعليم عبر الإنترنت الذى يفتقر إلى التفاعل المباشر والعمق المعرفى. كما أن وسائل التواصل الاجتماعى تلعب دورًا كبيرًا فى نشر الأخبار الزائفة والشائعات، وتقسيم المجتمع إلى مجموعات متناحرة، ما يعوق الحوار البنّاء والتفكير النقدى. ونتيجة لذلك، أصبحنا نشهد تراجعًا ملحوظًا فى القدرة على التحليل والتأمل، وبات الفرد أكثر عُرضة للتلاعب والتضليل.
إن تأثيرات تسطيح الوعى وخيمة على الفرد والمجتمع على حد سواء، فهى تؤدى إلى تدهور القيم الأخلاقية، وتزيد من الصراعات والانقسامات الاجتماعية، وتعرقل التنمية. وللمواجهة الفعالة لهذه الظاهرة، يجب علينا جميعًا أن نعمل على رفع مستوى الوعى بأهمية التفكير النقدى والتحليل، وأن نشجع القراءة والتعلم المستمر، وأن نكون حذرين من الأخبار الزائفة والشائعات، وأن نحترم الرأى والرأى الآخر، وأن نسعى إلى بناء مجتمع قائم على الحوار والتفاهم. كما يجب على المؤسسات التعليمية أن تلعب دورًا فعالًا فى نشر الوعى بأهمية التفكير النقدى، وتوفير بيئة محفزة للإبداع والابتكار.
إن مواجهة تسطيح الوعى تتطلب جهدًا مشتركًا من الجميع، فالمستقبل أفضل عندما نفكر بعمق ونحلل بوعى، وعندما نكون قادرين على التمييز بين الصواب والخطأ، وبين الحقيقة والوهم. وهو ما تحدث عنه الدكتور الباز عندما قال استفتِ قلبك أو عقلك.
وهناك تداخل بين ظاهرتى تسطيح الوعى والتطرف فى شبكة معقدة من الأسباب والنتائج. فالتسطيح الذى ينتج عن تراجع القدرة على التفكير النقدى والتحليل، وتبسيط القضايا المعقدة، واعتماد الأفكار الجاهزة دون تمحيص، يخلق بيئة خصبة للتطرف. فالعقل المسطح يصبح أكثر عرضة للتأثر بالخطابات المتطرفة التى تقدم حلولًا بسيطة لمشاكل معقدة، وتستغل العواطف بدلًا من العقل. كما أن التطرف، بدوره، يعزز من تسطيح الوعى، حيث يسعى إلى تبسيط الواقع وتقسيمه إلى أضداد، صديق وعدو.. مؤمن وكافر، ما يحد من قدرة الفرد على فهم التعقيدات الإنسانية والاجتماعية. وعندما يتم تسييس الدين فإن ذلك يسهم فى زيادة حدة التطرف، حيث يتم استخدام هذه الهويات لتبرير العنف والكراهية ضد الآخر. ونتيجة لذلك، فإن المجتمعات التى تعانى من تسطيح الوعى تصبح أكثر عُرضة للانقسامات والصراعات، وتفقد قدرتها على التعايش السلمى.
وللمواجهة الفعالة لهذه الظاهرة يجب علينا جميعًا أن نعمل على رفع مستوى الوعى بأهمية التفكير النقدى والتحليل، وأن نشجع الحوار البنّاء والاحترام المتبادل، وأن نرفض جميع أشكال التطرف والعنف، وأن نسعى إلى بناء مجتمعات عادلة ومتسامحة. ولن يتحقق هذا إلا بضرورة مواجهة كل أشكال التسطيح التى تسود بسبب غياب التربية النقدية التى تعتمد على إعمال العقل.